الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قَٰلَ كَمۡ لَبِثۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ عَدَدَ سِنِينَ} (112)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلفت القرّاء في قراءة قوله:"كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ"، وفي قوله: "لَبِثْنا يَوما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ"؛

فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة على وجه الخبر: "قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ"، وكذلك قوله: "قالَ إنْ لَبِثْتُمْ"، ووجّه هؤلاء تأويل الكلام إلى أن الله قال لهؤلاء الأشقياء من أهل النار وهم في النار: "كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ "وأنهم أجابوا الله فقالوا: "لَبِثْنا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ"، فنسي الأشقياء، لعظيم ما هم فيه من البلاء والعذاب، مدة مكثهم التي كانت في الدنيا، وقَصُر عندهم أمد مكثهم الذي كان فيها، لما حلّ بهم من نقمة الله، حتى حسبوا أنهم لم يكونوا مكثوا فيها إلا يوما أو بعض يوم، ولعلّ بعضهم كان قد مكث فيها الزمان الطويل والسنين الكثيرة.

وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة على وجه الأمر لهم بالقول، كأنه قال لهم قولوا كم لبثتم في الأرض؟ وأخرج الكلام مُخْرج الأمر للواحد والمعنيّ به الجماعة، إذ كان مفهوما معناه. وإنما اختار هذه القراءة من اختارها من أهل الكوفة لأن ذلك في مصاحفهم: «قُلْ» بغير ألف، وفي غر مصاحفهم بالألف.

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ ذلك: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ على وجه الخبر... فتأويل الكلام: قال الله كم لبثتم في الدنيا من عدد سنين؟ قالوا مجيبين له: لبثنا فيها يوما أو بعض يوم "فاسأل العادّين"، لأنا لا ندري، قد نسينا ذلك.

واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالعادّين؛ فقال بعضهم: هم الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويُحْصُون عليهم ساعاتهم... وقال آخرون: بل هم الحُسّاب...عن قَتادة:... قال: فاسأل أهل الحساب.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه: فاسأَلِ العادّينَ وهم الذين يَعُدّون عدد الشهور والسنين وغير ذلك. وجائز أن يكونوا الملائكة، وجائز أن يكونوا بني آدم وغيرهم، ولا حجة بأيّ ذلك من أيّ ثبتت صحتها فغير جائز توجيه معنى ذلك إلى بعض العادّين دون بعض.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

نَسُوا لعظيم ما هم فيه من العذاب مدّة مكثهم في الدنيا، وهذا توبيخ من الله تعالى لمنكري البعث وإلزام للحجّة عليهم.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

... واللبث هو المكث، وهو حصول الشيء على الحال أكثر من وقت واحد، واللبث هو الكائن على الصفة، على مرور الأوقات. والعدد: عقد يظهر به مقدار المعدود... والحساب: إخراج المقدار في الكمية وهي العدة.

وهذا السؤال لهم على وجه التوبيخ لإنكارهم البعث والنشور.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

عددُ سنين الأشياء -وإن كانت كثيرة- فقد تقصر أو تقل بالإضافة إلى ما يوفي ويُرْبِي عليها، كذلك مدة مقامهم تحت الأرض؛ إن كانوا في الراحة فقد تقل بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها في القيامة، وإن كانت شدائد فتتلاشى في جنب ما يرونه ذلك اليوم من أليم تلك العقوبات المتوالية.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... والغرض من هذا توقيفهم على أن أعمارهم قصيرة، أداهم الكفر فيها إلى عذاب طويل...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ، فقد كانوا ينكرون اللبث في الآخرة أصلا ولا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا ويظنون أن بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة وهم فيها مخلدون سألهم {كم لبثتم في الأرض} تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا فهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه، فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا من حيث أيقنوا خلافه، فليس الغرض السؤال بل الغرض ما ذكرنا.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

المعنى الجملي: بعد أن ذكر إنكارهم للبعث وأنهم لا يعترفون بحياة إلا ما كان في هذه الدنيا، وأنه بعد الفناء لا حياة ولا إعادة، ذكر هنا أنهم بعد أن يستقروا في النار ويوقنوا أنهم مخلدون فيها أبدا، يسألون سؤال تقريع وتوبيخ عن مدة لبثهم في الأرض، ليستبين لهم أن ما ظنوه أمدا طويلا يسير بالنسبة إلى ما أنكروه، وحينئذ يزدادون حسرة وألما على ما كانوا يعتقدون في الدنيا حين رأوا خلاف ما ظنوا، ثم بين بعدئذ ما هو كالدليل على وجود البعث، وهو تمييز المطيع من العاصي، ولولاه لكان خلق العالم عبثا، تنزه ربنا عن ذلك. ثم أتبع هذا بالرد على من أشرك معه غيره، وأنذره بالعذاب الأليم، ثم أمر رسوله أن يطلب منه غفران الذنوب، وأن يثني عليه بما هو أهله.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{قَالَ} لهم على وجه اللوم، وأنهم سفهاء الأحلام، حيث اكتسبوا في هذه المدة اليسيرة كل شر أوصلهم إلى غضبه وعقوبته، ولم يكتسبوا ما اكتسبه المؤمنون [من] الخير، الذي يوصلهم إلى السعادة الدائمة ورضوان ربهم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وإن الله -سبحانه- ليعلم. ولكنه سؤال لاستصغار أمر الأرض، واستقصار أيامهم فيها، وقد باعوا بها حياة الخلود.. وإنهم ليحسون اليوم بقصر تلك الحياة وضآلتها. وإنهم ليائسون ضيقو الصدر، لا يعنيهم حسابها وعدتها.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

مدة البقاء في الأرض:

إن هذه الدنيا مع أدوارهم فيها من أجنة في الأرحام إلى الخروج من بطون أمهاتهم أطفالا فشبابا فكهولا يكون الإحساس بها، كأنها يوم أو بعض يوم، ولذا يسألون يوم القيامة عن مدة مكثهم {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ}، أي مدة بقيتم في الأرض قد اتخذتموها مهادا وفراشا وأفسدتم بها ما أفسدتم وعادين ذلك بالسنين {عَدَدَ سِنِينَ} هذا بيان لأصل الاستفهام بعد نوع إيهام، أي كم لبثتم من عدد السنين، فالسؤال عن عدد السنين، لا عن عدد الشهور والأيام، لأنهم في ذلك الوقت يكونون قرب الخروج من أرحام الأمهات أطفالا، فالسؤال عن وقت وعيهم وهو يكون بالسنين.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

والمتبادر أن هذا القسم من المحاورة استهدف بيان تفاهة المدة التي يقتضيها الكفار في الدنيا مغترين بقوتهم، وقد تضمنت تقريعا لاذعا على حسبانهم أن لا حياة وراء حياتهم الدنيوية، وأن لا حكمة وغاية وراء وجود الكون، واستهدفت ما استهدفته سابقاتها من إثارة خوفهم وارعوائهم فضلا عن توكيدها حقيقة الآخرة الإيمانية واتساقها مع الحكمة والعدل والحق...

ومع ما ذكرناه من صلة الآيات وهدفها، ففيها وبخاصة في الآيتين الأخيرتين فيهما تلقين مستمر المدى موجه إلى الناس عامة في كل ظرف ومكان ليرعووا ويتعظوا ويتجهوا نحو الله عز وجل.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

لبث: مكث وأقام، فالمعنى: ما عدد السنين التي ظللتموها في الأرض، لكن لماذا هذا السؤال؟. قالوا: لأن الذي شغلكم عن دين يضمن لكم ميعادا خالدا، ونعيما باقيا هو الدنيا التي صرفتكم بزينتها وزخرفها وشهواتها- وعلى فرض أنكم تمتعتم بهذا في الدنيا- فهل يقارن بما أعد للمؤمنين في الآخرة من النعيم المقيم الذي لا يفوتهم ولا يفوتونه؟. والقيامة حين تقوم ستقوم على قوم ماتوا في ساعتها، فيكون لبثهم قريبا، وعلى أناس ماتوا من أيام آدم فيكون لبثهم طويلا، إذن: فاللبث في الأرض مقول بالتشكيك كما يقولون، لكن هل يدرك الأموات المدة التي لبثوها في الأرض؟ معلوم أنهم لا يدركون الزمن، لأن إدراك الزمن يتأتى بمشاهدة الأحداث، فالميت لا يشعر بالزمن، لأنه لا يعيش أحداثا، كالنائم لا يدري المدة التي نامها، وكل من سئل هذا السؤال قال: {يوما أو بعض يوم.. (259)} [البقرة]. قالها العزير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، وقالها أهل الكهف الذين أنامهم الله ثلاثمائة سنة وتسعا، لأن هذه هي أطول مدة يمكن أن يتخيلها الإنسان لنومه، ولا يستطيع النائم تحديد ذلك بدقة، لأن الزمن ابن الحدث، فإن انعدم الحدث انعدم الزمن. لذلك يقول تعالى عمن ماتوا حتى من أيام آدم عليه السلام: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها (46)} [النازعات].