وجملة " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " مقررة لمضمون ما قبلها ، مبنية لحلول وقت ذلك العذاب بهم .
أى : لهم عذاب عظيم يوم القيامة ، يوم يقفون أمام الله - تعالى - للحساب فتشهد عليهم ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم ، بما كانوا يعملونه فى الدنيا من أعمال سيئة ، وبما كانوا يقولونه من أقوال قبيحة .
فالمراد بشهادة هذه الجوارح ، نطقها وإخبارها عما كانوا يعملونه فى الدنيا .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ . . . } وقوله - سبحانه - { اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .
وقوله { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو يحيى الرازي ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن مُطَرِّف ، عن المِنْهَال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إنهم - يعني : المشركين - إذا رَأوا أنه لا يدخلُ الجنةَ إلا أهل الصلاة ، قالوا : تعالوا حتى نجحد . فيجحدون فيختم [ الله ]{[20960]} على أفواههم ، وتشهد أيديهم وأرجلهم ، ولا يكتمون الله حديثًا .
وقال ابن جرير ، وابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة ، عُرف الكافر بعمله ، فيجحد ويخاصم ، فيقال له : هؤلاء جيرانك يشهدون عليك . فيقول : كذبوا . فيقول : أهلك وعشيرتك . فيقول : كذبوا ، فيقول : احلفوا . فيحلفون ، ثم يُصمِتهم الله ، فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم ، ثم يدخلهم النار " {[20961]} .
وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة الكوفي ، حدثنا مِنْجَاب بن الحارث التميمي{[20962]} حدثنا أبو عامر الأسَدِي ، حدثنا سفيان ، عن عبيد المُكْتب ، عن فُضَيل بن عمرو الفُقَيمي ، عن الشعبي ، عن أنس بن مالك قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نَوَاجذُه ، ثم قال : " أتدرون{[20963]} مِمَّ أضحك ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : " من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : يا رب ، ألم تُجِرْني من الظلم ؟ فيقول : بلى . فيقول : لا أجيز عليَّ شاهدًا إلا من نفسي . فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا ، وبالكرام عليك شهودا{[20964]} فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بعمله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول : بُعدًا لَكُنّ وسُحْقًا ، فعنكُنَّ كنتُ أناضل " .
وقد رواه مسلم والنسائي جميعا ، عن أبي بكر بن أبي النضر ، عن أبيه ، عن عُبَيد الله{[20965]} الأشجعي ، عن سفيان الثوري ، به{[20966]} ثم قال النسائي : لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن سفيان الثوري غير{[20967]} الأشجعي ، وهو حديث غريب ، والله أعلم . هكذا قال .
وقال قتادة : ابن آدم ، والله إن عليك لَشُهودًا غيرَ متهمة من بدنك ، فراقبهم واتق الله في سرك{[20968]} وعلانيتك ، فإنه لا يخفى عليه خافية ، والظلمة عنده ضوء{[20969]} والسر عنده علانية ، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن ، فليفعل ولا قوة إلا بالله .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولهم عذاب عظيم يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ألْسِنَتُهُمْ ف«اليوم » الذي في قوله : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ من صلة قوله : وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . وعُنِي بقوله : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيهِمْ ألْسِنَتُهُمْ يوم القيامة وذلك حين يجحد أحدهما ما اكتسب في الدنيا من الذنوب عند تقرير الله إياه بها ، فيختم الله على أفواههم ، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون .
فإن قال قائل : وكيف تشهد عليهم ألسنتهم حين يختم على أفواههم ؟ قيل : عُنِي بذلك أن ألسنة بعضهم تشهد إلى بعض ، لا أن ألسنتهم تنطق وقد ختم على الأفواه . وقد :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو ، عن درّاج ، عن أبي الهيثمي ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ عُرِفَ الكافِرُ بعَمَلِهِ ، فَجَحَدَ وَخاصَمَ ، فَيُقالُ لَهُ : هَؤُلاءِ جيرَانُكَ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ ، فَيَقُولُ : كَذَبُوا فَيَقُولُ : أهْلُكَ وَعَشِيرَتُكَ ، فَيَقُولُ : كَذَبُوا فَيَقُولُ : أتَحْلِفُونَ ؟ فَيَحْلِفُونَ . ثُمّ يُصْمِتُهُمُ اللّهُ ، وتَشْهَدُ ألْسِنَتُهُمْ ، ثُمّ يُدْخِلُهُمُ النّارُ » .