يشير تعالى إشارة دالة على التعظيم إلى { آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } أي : آياته محكمة ، صدرت من حكيم خبير .
من إحكامها ، أنها جاءت بأجل الألفاظ وأفصحها ، وأبينها ، الدالة على أجل المعاني وأحسنها .
ومن إحكامها ، أنها محفوظة من التغيير والتبديل ، والزيادة والنقص ، والتحريف .
ومن إحكامها : أن جميع ما فيها من الأخبار{[661]} السابقة واللاحقة ، والأمور الغيبية كلها ، مطابقة للواقع ، مطابق لها الواقع ، لم يخالفها كتاب من الكتب الإلهية ، ولم يخبر بخلافها ، نبي من الأنبياء ، [ ولم يأت ولن يأتي علم محسوس ولا معقول صحيح ، يناقض ما دلت عليه ]{[662]} .
ومن إحكامها : أنها ما أمرت بشيء ، إلا وهو خالص المصلحة ، أو راجحها ، ولا نهت عن شيء ، إلا وهو خالص المفسدة أو راجحها ، وكثيرا ما يجمع بين الأمر بالشيء ، مع ذكر [ حكمته ]{[663]} فائدته ، والنهي عن الشيء ، مع ذكر مضرته .
ومن إحكامها : أنها جمعت بين الترغيب والترهيب ، والوعظ البليغ ، الذي تعتدل به النفوس الخيرة ، وتحتكم ، فتعمل بالحزم .
ومن إحكامها : أنك تجد آياته المتكررة ، كالقصص ، والأحكام ونحوها ، قد اتفقت كلها وتواطأت ، فليس فيها تناقض ، ولا اختلاف . فكلما ازداد بها البصير تدبرا ، وأعمل فيها العقل تفكرا ، انبهر عقله ، وذهل لبه من التوافق والتواطؤ ، وجزم جزما لا يمترى فيه ، أنه تنزيل من حكيم حميد .
ولكن - مع أنه حكيم - يدعو إلى كل خلق كريم ، وينهى عن كل خلق لئيم ، أكثر الناس محرومون الاهتداء به ، معرضون عن الإيمان والعمل به ، إلا من وفقه اللّه تعالى وعصمه ، وهم المحسنون في عبادة ربهم والمحسنون إلى الخلق .
واسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم } يعود إلى آيات القرآن الكريم ، ويندرج فيها آيات السور التى معنا .
والمراد بالكتاب : القرآن الكريم على الصحيح . لأنه هو المتحدث عنه .
قال الآلوسى : وأما حمله على الكتب التى خلت قبل القرآن . . فهو فى غاية البعد ، والحكيم - بزنة فعيل - مأخوذ من الفعل حكم بمعنى منع ، تقول : حكمت الفرس ، إذا وضت الحكمة فى فمها لمنعها من الجموح والشرود .
والمقصود ، أن هذا القرآن ممتنع أن يتطرق إليه الفساد ، ومبرأ من الخلل والتناقض والاختلاف .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : وفى وصف الكتاب بكونه حكيما وجوه ، منها : أن الحكيم هو ذو الحكمة ، بمعنى اشتماله على الحكمة ، فيكون الوصف للنسبة كلابن وتامر . ومنها أن الحكيم بمعنى الحاكم ، بدليل قوله - تعالى - : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ } ومنها أن الحكيم بمعنى المحكم . . " أى المبرأ من الكذب والتناقض " .
والمعنى : تلك الآيات السامية ، المنزلة عليك يا محمد ، هى آيات الكتاب ، المشتمل على الحكمة والصواب ، المحفوظ من كل تحريف أو تبديل الناطق بكل ما يوصل إلى الدنيوية والأخروية .
وصحت الإِشارة إلى آيات الكتاب مع أنها لم تكنقد نزلت كلها لأن الإِشارة إلى بعضها كالإِشارة إلى جميعها ، حيث كانت بصدد الإِنزال ، ولأن الله - تعالى - قد وعد رسوله صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن عليه ، كما فى قوله - تعالى - : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ووعد الله - تعالى - لا يتخلف .
ألم . تلك آيات الكتاب الحكيم . هدى ورحمة للمحسنين ، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، وهم بالآخرة هم يوقنون . أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون . .
الافتتاح بالأحرف المقطعة . ( ألف . لام . ميم )والإخبار عنها بأنها : ( تلك آيات الكتاب الحكيم )للتنبيه إلى أن آيات الكتاب من جنس تلك الأحرف - على نحو ما تقدم في السور المبدوءة بالأحرف - واختيار وصف الكتاب هنا بالحكمة ، لأن موضوع الحكمة مكرر في هذه السورة ، فناسب أن يختار هذا الوصف من أوصاف الكتاب في جوه المناسب على طريقة القرآن الكريم . ووصف الكتاب بالحكمة يلقي عليه ظلال الحياة والإرادة ، فكأنما هو كائن حي متصف بالحكمة في قوله وتوجيهه ، قاصد لما يقول ، مريد لما يهدف إليه . وإنه لكذلك في صميمه . فيه روح . وفيه حياة . وفيه حركة . وله شخصية ذاتية مميزة . وفيه إيناس . وله صحبة يحس بها من يعيشون معه ويحيون في ظلاله ، ويشعرون له بحنين وتجاوب كالتجاوب بين الحي والحي ، وبين الصديق والصديق !
القول في تأويل قوله تعالى : { الَمَ * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لّلْمُحْسِنِينَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ بِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } .
وقد تقدّم بياننا تأويل قول الله تعالى ذكره الم . وقوله : تِلكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ يقول جل ثناؤه : هذه آيات الكتاب الحكيم بيانا وتفصيلاً .
إذا كانت هذه السورة نزلت بسبب سؤال قريش عن لقمان وابنه فهذه الآيات إلى قوله { ولقد ءاتينا لقمان الحكمة } [ لقمان : 12 ] بمنزلة مقدمة لبيان أن مرمى القرآن من قصّ القصة ما فيها من علم وحكمة وهدى وأنها مسوقة للمؤمنين لا للذين سألوا عنها فكان سؤالهم نفعاً للمؤمنين .
والإشارة ب { تِلْكَ } إلى ما سيذكر في هذه السورة ، فالمشار إليه مقدر في الذهن مترقب الذكر على ما تقدم في قوله { ذلك الكِتَاب } في أول البقرة ( 2 ) وفي أول سورة الشعراء ( 2 ) والنمل ( 1 ) والقصص ( 2 ) .
{ وآيات الكتاب } خبر عن اسم الإشارة . وفي الإشارة تنبيه على تعظيم قدر تلك الآيات بما دل عليه اسم الإشارة من البعد المستعمل في رفعة القدر ، وبما دلت عليه إضافة الآيات إلى الكتاب الموصوف بأنه الحكيم وأنه هدى ورحمة وسبب فلاح .
و { الحكيم } : وصف للكتاب بمعنى ذي الحكمة ، أي لاشتماله على الحكمة . فوصف { الكِتَاب } ب { الحَكِيم } كوصف الرجل بالحكيم ، ولذلك قيل : إن الحكيم استعارة مكنية ، أو بعبارة أرشق تشبيه بليغ بالرجل الحكيم . ويجوز أن يكون الحكيم بمعنى المُحْكَم بصيغة اسم المفعول وصفاً على غير قياس كقولهم : عَسل عقيد ، لأنه أُحكم وأتقن فليس فيه فضول ولا مالا يفيد كمالاً نفسانياً . وفي وصف { الكِتَاب } بهذا الوصف براعة استهلال للغرض من ذكر حكمة لقمان . وتقدم وصف الكتاب ب { الحَكِيم } في أول سورة يونس ( 1 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.