{ 11 - 15 ْ } { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ْ }
يقول تعالى - محذرا لهؤلاء الظالمين ، المكذبين للرسول ، بما فعل بالأمم المكذبة لغيره من الرسل - { وَكَمْ قَصَمْنَا ْ } أي : أهلكنا بعذاب مستأصل { مِنْ قَرْيَةٍ ْ } تلفت عن آخرها { وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ْ }
ثم بين - سبحانه - ما أنزله بالقوم الظالمين فقال : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } .
و " كم " هنا خبرية مفيدة للتكثير ، وهى فى محل نصب على أنها مفعول مقدم " لقصمنا " .
وأصل القصم : كسر الشىء حتى ينقطع وينفصل عن غيره ، يقال : قصم فلان ظهر فلان ، إذا كسره حتى النهاية ، بخلاف الفصم فهو صدع الشىء من غير قطع وانفصال .
قال القرطبى : " والقصم : الكسر ، يقال : قصمت ظهر فلان ، وانقصمت سنه ، إذا انكسرت .
والمعنى ها هنا به الإهلاك . وأما الفصم - بالفاء - فهو الصدع فى الشىء من غير بينونة " .
أى : وكثيرا من القرى الظالمة التى تجاوز أهلها حدود الحق ، ومردوا على الكفر والضلال ، أبدناها مع أهلها ، وعذبناها عذابا نكرا ، بسبب ظلمهم وبغيهم ، وأنشأنا من بعدهم قوما آخرين ليسوا مثلهم .
وأوقع - سبحانه - فعل القصم على القرى ، للإشعار بأن الهلاك قد أصابها وأصاب أهلها معها . فالكل قد دمره - سبحانه - تدميراً .
أما عند الإنشاء فقد أوقع الفعل على القوم فقال : { وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } للإيماء إلى أن هؤلاء القوم الآخرين ، الذين لم يكونوا أمثال السابقين ، هم الذين ينشئون القرى ويعمرونها .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمّآ أَحَسّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وكثيرا قصمنا من قرية . والقصم : أصله الكسر ، يقال منه : قصمت ظهر فلان إذا كسرته ، وانْقَصَمَتْ سِنّه : إذا انكسرت . وهو ههنا معنيّ به «أهلكنا » ، وكذلك تأوّله أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وكَمْ قَصَمْنا قال : أهلكنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ قال : أهلكناها .
قال ابن جُرَيج : قصمنا من قرية ، قال : باليمن ، قصمنا ، بالسيف أُهلكوا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ قال : قصمها أهلكها .
وقوله : مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً أجرى الكلام على القرية ، والمراد بها أهلها لمعرفة السامعين بمعناه . وكأن ظُلْمَها كُفْرُها بالله وتكذيبُها رسله . وقوله : وأنْشأْنا بَعْدَهَا قَوْما آخَرِينَ يقول تعالى ذكره : وأحدثنا بعد ما أهلكنا هؤلاء الظلمة من أهل هذه القرية التي قصمناها بظلمها قوما آخرين سواهم .
عطف على قوله { ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها } [ الأنبياء : 6 ] أو على قوله تعالى { وأهلكنا المسرفين } ، وهو تعريض بالتهديد .
ومناسبة موقعها أنه بعد أن أخبر أنه صَدَق رُسُلَه وعْدَه وهو خبر يفيد ابتداءً التنويه بشأن الرسل ونصرَهم وبشأن الذين آمنوا بهم . وفيه تعريض بنصر محمد صلى الله عليه وسلم وذكر إهلاك المكذبين له تبعاً لذلك ، فأعقب ذلك بذكر إهلاك أمم كثيرة من الظالمين ووصففِ ما حل بهم ليكون ذلك مقصوداً بذاته ابتداءً اهتماماً به ليَقرع أسماعهم ، فهو تعريض بإنذار المشركين بالانقراض بقاعدة قياس المساواة ، وأن الله يُنشىء بعدهم أُمّة مؤمنة كقوله تعالى { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } في سورة [ إبراهيم : 19 ] .
و ( كم ) اسم ، له حقّ صدر الكلام لأن أصله اسم استفهام عن العدد ، وشاع استعماله للإخبار عن كثرة الشيء على وجه المجاز لأن الشيء الكثير من شأنه أن يُستفهَم عنه ، والتقدير : قصمنا كثيراً من القرى ف ( كم ) هنا خبرية . وهي واقعة في محل نصب بفعل { قصمنا } .
وفي ( كم ) الدالة على كثرة العدد إيماء إلى أن هذه الكثرة تستلزم عدم تخلف إهلاك هذه القرى ، وبضميمة وصف تلك الأمم بالظلم أي الشرك إيماءٌ إلى سبب الإهلاك فحصل منه ومن اسم الكثرة معنى العموم ، فيَعلم المشركون التهديد بأن ذلك حالٌّ بهم لا محالة بحكم العموم ، وأن هذا ليس مراداً به قرية معينة ، فما روي عن ابن عباس : أن المراد بالقرية ( حَضوراء ) بفتح الحاء مدينة باليمن قتلوا نبيئاً اسمه شُعيب بن ذي مهدم في زمن أرمياء نبيء بني إسرائيل فسلط الله عليهم بختنصر فأفناهم . فإنما أراد أن هذه القرية ممن شملتهم هذه الآية ، والتقدير : قصمنا كثيراً . وقد تقدم الكلام على قوله تعالى { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } في سورة [ الأنعام : 6 ] .
وأطلق القرية على أهلها كما يدل عليه قوله تعالى { وأنشأنا بعدها قوماً آخرين } .
ووجه اختيار لفظ { قرية } هنا نظير ما قدمناه آنفاً في قوله تعالى { ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها } [ الأنبياء : 6 ] .
وحرف ( مِن ) في قوله تعالى { من قرية } لبيان الجنس ، وهي تدخل على ما فيه معنى التمييز وهي هنا تمييز لإبهام ( كم ) .
والقصْم : الكسر الشديد الذي لا يرجى بعده التئام ولا انتفاع . واستعير للاستيصال والإهلاك القوي كإهلاك عاد وثمود وسبأ .