قوله تعالى : فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم } فوعده وتمنيته ما يوقعه في قلب الإنسان من طول العمر ، ونيل الدنيا ، وقد يكون بالتخويف بالفقر فيمنعه من الإنفاق ، وصلة الرحم ، كما قال الله تعالى : { الشيطان يعدكم الفقر } [ البقرة :268 ] ويمنيهم بأن لا بعث ولا جنة ولا نار .
قوله تعالى : { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } ، أي : باطلاً .
ثم قال : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ْ } أي : يعد الشيطان من يسعى في إضلالهم ، والوعد يشمل حتى الوعيد كما قال تعالى : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ْ } فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل الله افتقروا ، ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل وغيره ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ْ } الآية . ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله بكل ما يمكن وما لا يمكن مما يدخله في عقولهم حتى يكسلوا عن فعل الخير ، وكذلك يمنيهم الأماني الباطلة التي هي عند التحقيق كالسراب الذي لا حقيقة له ، ولهذا قال : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا }
وقوله - تعالى - { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } تأكيد للتحذير السابق من اتباع الشيطان .
أى : يعد الشيطان أولياءه بالوعود الباطلة ، ويمنيهم بالأمانى الكاذبة ، لكى يستمروا على طاعته ، والحال أن الشيطان ما يعدهم إلا بالأمور الخادعة التى ظاهرها يغرى وباطنها يردى .
قال القرطبى : الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه وفيه باطن مكروه والشيطان غرور ، لأنه يحمل على محاب النفس ووراء ذلك ما يسوء .
وقوله { غُرُوراً } مفعول ثان للوعد ، أو مفعول لأجله . أو نعت لمصدر محذوف أى وعدا ذا غرور .
{ يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ ومَا يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُورا } يعني بذلك جلّ ثناؤه : يَعِد الشيطان المَريدُ أولياءه ، الذين هم نصيبه المفروض أن يكون لهم نصيرا ممن أرادهم بسوء ، وظهيرا لهم عليه ، يمنعهم منه ويدافع عنهم ، ويمينهم الظفر على من حاول مكروههم والفلج عليهم . ثم قال : { وَما يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُورا } يقول : وما يعد الشيطان أولياءه الذين أتخذوه وليا من دون الله إلا غرورا ، يعني : إلا باطلاً . وإنما جعل عدّته إياهم جلّ ثناؤه ما وعدهم غرورا ، لأنهم كانوا يحسبون أنهم في اتخاذهم إياه وليا على حقيقته من عدَاته الكاذبة وأمانيه الباطلة ، حتى إذا حصحص الحقّ وصاروا إلى الحاجة إليه ، قال لهم عدوّ الله : { إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوَعَدْتُكُمْ فأخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إلاّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فاسْتَجَبْتُمْ لي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أنْفُسَكمْ ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكُتُمُونِ مِنْ قَبْل } ، وكما قال للمشركين ببدر ، وقد زين لهم أعمالهم : { لا غالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النّاس وَإنّى جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَرَاءَتِ الفِئَتانِ } وحصحص الحق ، وعاين حدّ الأمر ، ونزول عذاب الله بحزبه { نَكَسَ عَلى عَقِبَيْهِ وقَالَ إنّى بَرِيءٌ مِنْكُمْ إنّى أرَى ما لا تَرَوْنَ إنّى أخافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ العِقابِ } ، فصارت عداته عدوّ الله إياهم عند حاجتهم إليه غرورا { كَسَرَابٍ بِقِيَعةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَاءً حَتّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا وَوَجَد اللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يعدهم} إبليس الغرور ألا بعث، {ويمنيهم} إبليس الباطل.
{وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}: إلا باطلا، الذي ليس بشيء...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ ومَا يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُورا}: يَعِد الشيطان المَريدُ أولياءه، الذين هم نصيبه المفروض أن يكون لهم نصيرا ممن أرادهم بسوء، وظهيرا لهم عليه، يمنعهم منه ويدافع عنهم، ويمينهم الظفر على من حاول مكروههم والفلج عليهم.
ثم قال: {وَما يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُورا}: وما يعد الشيطان أولياءه الذين أتخذوه وليا من دون الله إلا غرورا، يعني: إلا باطلاً. وإنما جعل عدّته إياهم جلّ ثناؤه ما وعدهم غرورا، لأنهم كانوا يحسبون أنهم في اتخاذهم إياه وليا على حقيقته من عدَاته الكاذبة وأمانيه الباطلة، حتى إذا حصحص الحقّ وصاروا إلى الحاجة إليه، قال لهم عدوّ الله: {إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوَعَدْتُكُمْ فأخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إلاّ أنْ دَعَوْتُكُمْ فاسْتَجَبْتُمْ لي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أنْفُسَكمْ ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكُتُمُونِ مِنْ قَبْل}، وكما قال للمشركين ببدر، وقد زين لهم أعمالهم: {لا غالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النّاس وَإنّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَرَاءَتِ الفِئَتانِ} وحصحص الحق، وعاين حدّ الأمر، ونزول عذاب الله بحزبه {نَكَص عَلى عَقِبَيْهِ وقَالَ إنّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إنّي أرَى ما لا تَرَوْنَ إنّي أخافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ العِقابِ}، فصارت عداته عدوّ الله إياهم عند حاجتهم إليه غرورا {كَسَرَابٍ بِقِيَعةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَاءً حَتّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا وَوَجَد اللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ}.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يعدهم} إما فقرا وإما سعة {ويمينهم} هو ما ذكرنا من الأماني وقضاء الشهوات في الدنيا. {وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} والغرور هو أن يرى شيئا، ويظهر خلافه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" وما يعدهم الشيطان إلا غرورا "يعني باطلا وسماه غرورا، لأنهم كانوا يظنون أن ذلك حق، فلما بان لهم أنه باطل، كان غرورا...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{يعدهم} طول العمر في الدنيا {ويمنيهم} نيل المراد منها {وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} أي إلا ما يغرهم من إيهام النفع فيما فيه الضرر...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
- يعدهم التوبة، ويمنيهم المغفرة، فيهلكهم بإذن الله تعالى بهذه الحيل وما يجري مجراها. [الإحياء: 3/52]...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
فوعده وتمنيته ما يوقعه في قلب الإنسان من طول العمر، ونيل الدنيا، وقد يكون بالتخويف بالفقر فيمنعه من الإنفاق، وصلة الرحم، كما قال الله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر} [البقرة:268] ويمنيهم بأن لا بعث ولا جنة ولا نار.
قوله تعالى: {وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}، أي: باطلاً.
ثم قال تعالى: {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} واعلم أنا بينا في الآية المتقدمة أن عمدة أمر الشيطان إنما هو بإلقاء الأماني في القلب، وأما تبتيك الآذان وتغيير الخلقة فذاك من نتائج إلقاء الأماني في القلب ومن آثاره، فلا جرم نبه الله تعالى على ما هو العمدة في دفع تلك الأماني وهو أن تلك الأماني لا تفيد إلا الغرور، والغرور هو أن يظن الإنسان بالشيء أنه نافع ولذيذ، ثم يتبين اشتماله على أعظم الآلام والمضار، وجميع أحوال الدنيا كذلك، والعاقل يجب عليه أن لا يلتفت إلى شيء منها، ومثال هذا أن الشيطان يلقي في قلب الإنسان أنه سيطول عمره وينال من الدنيا أمله ومقصوده، ويستولي على أعدائه، ويقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت له كما تيسرت لغيره، إلا أن كل ذلك غرور فإنه ربما لم يطل عمره، وإن طال فربما لم يجد مطلوبه، وإن طال عمره ووجد مطلوبه على أحسن الوجوه فإنه لابد وأن يكون عند الموت في أعظم أنواع الغم والحسرة فإن المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الإلف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته أشد إيلاما وأعظم تأثيرا في حصول الغم والحسرة، فظهر أن هذه الآية منبهة على ما هو العمدة والقاعدة في هذا الباب.
وفي الآية وجه آخر: وهو أن الشيطان يعدهم بأنه لا قيامة ولا جزاء فاجتهدوا في استيفاء اللذات الدنيوية.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{يعدهم} ما لا ينجزه. {ويمنيهم} ما لا ينالون...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم علل ذلك بقوله: {يعدهم} أي بأن يخيل إليهم بما يصل إلى قلوبهم بالوسوسة في شيء من الأباطيل أنه قريب الحصول، و أنه لا درك في تحصيله، وأنه إن لم يحصل كان في فواته ضرر، فيسعون في تحصيله، فيضيع عليهم في ذلك الزمانُ، ويرتكبون فيه ما لا يحل من الأهوال والهوان {ويمنيهم} أي يزين لهم تعليق الآمال بما لا يتأتى حصوله، ثم بين ذلك بقوله: {وما} أي والحالة أنه ما {يعدهم} وأظهر في موضع الإضمار تنبيهاً على مزيد النفرة فقال: {الشيطان} أي المحترق البعيد عن الخير {إلا غروراَ} أي تزييناً بالباطل خداعاً ومكراً وتلبيساً، إظهاراً -لما لا حقيقة له أو له حقيقة سيئة- في أبهى الحقائق وأشرفها وألذها إلى النفس وأشهاها إلى الطبع، فإن مادة "غر "و "رغ" تدول على الشرف والحسن ورفاهة العيش، فالغرور إزالة ذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويصور السياق القرآني فعل الشيطان مع أوليائه، في مثل حالة الاستهواء.
(يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا).
إنها حالة استهواء معينة هي التي تنحرف بالفطرة البشرية عن الإيمان والتوحيد، إلى الكفر والشرك. ولولا هذا الاستهواء لمضت الفطرة في طريقها، ولكان الإيمان هو هادي الفطرة وحاديها.
وإنها حالة استهواء معينة هي التي يزين فيها الشيطان للإنسان سوء عمله، فيراه حسنا! ويعده الكسب والسعادة في طريق المعصية، فيعدو معه في الطريق! ويمنيه النجاة من عاقبة ما يعمل فيطمئن ويمضي في طريقه إلى المهلكة!
وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا..
وحين يرتسم المشهد على هذا النحو، والعدو القديم يفتل الحبال، ويضع الفخ، ويستدرج الفريسة، لا تبقى إلا الجبلات الموكوسة المطموسة هي التي تظل سادرة لا تستيقظ، ولا تتلفت ولا تحاول أن تعرف إلى أي طريق تساق، وإلى أية هوة تستهوى!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {يعدهم ويمنّيهم} استئناف لبيان أنّه أنجز عزمه فوعد ومنَّى وهو لا يزال يَعد ويمنّي، فلذلك جيء بالمضارع...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
صور الله سبحانه وتعالى حال إغراء الشيطان بأنه عمل عملين، لا يكون فيهما أي نفع عاجل أو آجل، فهو أولا يسرف في وعدهم بمتع لا حد لها، بأن يصور لهم أن فيما يفعلون من شر متعا كثيرة، ونفعا كبيرا، وليس لذلك أي أثر. وثانيهما: أنه يجعل النفس تتمنى ما لا يعقل ويكون بعيد الوقوع. ومن وراء تلك الأماني تنفذ إلى النفس الأوهام فتسيطر عليها. وما كان ذلك الوعد وإثارة الأمنيات إلا الغرور والخيبة في ذاتها...