قوله تعالى : { فاسجدوا لله واعبدوا } يعني : واعبدوه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم : سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا نصر بن علي ، أخبرني أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد عن عبد الله قال : " أول سورة انزلت فيها سجدة : النجم ، قال : فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً ، وهو أمية بن خلف " .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا آدم بن أبي إياس ، أنبأنا ابن أبي ذئب ، أنبأنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت قال : قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم والنجم فلم يسجد فيها . فقلت : فهذا دليل على أن سجود التلاوة غير واجب . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء . وهو قول الشافعي وأحمد . وذهب قوم إلى أن وجوب سجود التلاوة على القارئ والمستمع جميعاً ، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي .
فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال لما كنتم بهذه المثابة التي يأنف منها أولو الألباب ، ولهذا قال تعالى : { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } الأمر بالسجود لله خصوصا ، ليدل ذلك على فضله{[918]} وأنه سر العبادة ولبها ، فإن لبها الخشوع لله{[919]} والخضوع له ، والسجود هو أعظم حالة يخضع بها العبد{[920]} فإنه يخضع قلبه وبدنه ، ويجعل أشرف أعضائه على الأرض المهينة موضع وطء الأقدام . ثم أمر بالعبادة عموما ، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة .
تم تفسير سورة النجم ، والحمد لله الذي لا نحصي ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه عباده ، وصلى الله على محمد وسلم تسليما كثيرا .
وقوله - سبحانه - : { فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا } إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم ، ونهى لهم عن الكفر والضلال .
فالفاء فى قوله - تعالى - : { فاسجدوا } لترتيب الأمر بالسجود ، على الإنذار بالعذاب الشديد إذا ما استمروا فى كفرهم ولهوهم .
والمراد بالسجود : الخضوع لله - تعالى - وإخلاص العبادة له ، ويندرج فيه سجود الصلاة ، وسجود التلاوة .
أى : اتركوا ما أنتم عليه من فر وضلال . وخصوا الله - تعالى - بالخضوع الكامل ، وبالعبادة التامة ، التى لا شرك فيها لأحد معه - سبحانه - .
قال الآلوسى : وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم ، وقد سجد النبى - صلى الله عليه وسلم - عندها .
أخرج الشيخان ، وأبو داود ، والنسائى عن ابن مسعود قال : " أول سورة أنزلت فيها سجدة : سورة " النجم " فسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسجد الناس كلهم إلا رجلا " .
هذا ، وقد ذكر بعض الفسرين قصة الغرانيق . وملخصها أن الرصول - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم ، فلما بلغ قوله - تعالى - { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى } ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى .
وقد قال الإمام ابن كثير عند حديثه عن هذه القصة : إنها من روايات وطرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح .
وقد ذكرنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ذكرنا ما يدل على بطلان هذه القصة من جهة النقل ومن جهة العقل .
ثم أمر تعالى بالسجود وعبادة الله تحذيراً وتخويفاً ، وهاهنا سجدة في قول كثير من أهل العلم ، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وردت بها أحاديث صحاح ، وليس يراها مالك رحمه الله تعالى{[10748]} ، وقال زيد بن وثاب إنه قرأ بها عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد .
تفريع على الإِنكار والتوبيخ المفرعين على الإِنذار بالوعيد ، فرع عليه أمرهم بالسجود لله لأن ذلك التوبيخ من شأنه أن يعمق في قلوبهم فيكفّهم عما هم فيه من البطر والاستخفاف بالداعي إلى الله . ومقتضى تناسق الضمائر أن الخطاب في قوله : { فاسجدوا لله واعبدوا } موجه إلى المشركين .
والسجود يجوز أن يراد به الخشية كقوله تعالى : { والنجم والشجر يسجدان } والمعنى : أمرهم بالخضوع إلى الله والكف عن تكذيب رسوله وعن إعراضهم عن القرآن لأن ذلك كله استخفاف بحق الله وكان عليهم لما دُعوا إلى الله أن يتدبروا وينظروا في دلائل صدق الرسول والقرآن .
ويجوز أن يكون المراد سجود الصلاة والأمر به كناية عن الأمر بأن يُسلموا فإن الصلاة شعار الإسلام ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين } [ المدثر : 42 ، 43 ] ، أي من الذين شأنهم الصلاة وقد جاء نظيره الأمر بالركوع في قوله تعالى : { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } في سورة المرسلات ( 48 ) فيجوز فيه المحملان .
وعطف على ذلك أمرهم بعبادة الله لأنهم إذا خضعوا له حَقَّ الخضوع عبدوه وتركوا عبادة الأصنام وقد كان المشركون يعبدون الأصنام بالطواف حولها ومعرضين عن عبادة الله ، ألاَ ترى أنهم عمدوا إلى الكعبة فوضعوا فيها الأصنام ليكون طوافهم بالكعبة طوافاً بما فيها من الأصنام .
أو المراد : واعبدوه العبادة الكاملة وهي التي يُفرد بها لأن إشراك غيره في العبادة التي يستحقها إلا هو كعدم العبادة إذ الإِشراك إخلال كبير بعبادة الله قال تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } [ النساء : 36 ] .
وقد ثبت في الأخبار الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ النجم فسجد فيها أي عند قوله : { فاسجدوا لله واعبدوا } وسجد من كان معه من المسلمين والمشركين إلا شيخاً مشركاً { هو أمية بن خلف } أخذ كفًّا من تراب أو حصى فرفعه إلى جهته وقال : يكفيني هذا . وروي أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود كانا يسجدان عند هذه الآية في القراءة في الصلاة .
وفي « أحكام » ابن العربي أن ابن عمر سجد فيها ، وفي « الصحيحين » و « السنن » عن زيد بن ثابت قال : قرأت النجم عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد فيها . وفي « سنن ابن ماجه » عن أبي الدرداء « سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدَى عشرة سجدة ليس فيها من المفصّل شيء » . وعن أبي بن كعب : كان آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك السجود في المفصّل . وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة ، وسورة النجم من المفصَّل .
واختلف العلماء في السجود عند هذه الآية فقال مالك : سجدة النجم ليست من عزائم القرآن أي ليست مما يسنّ السجود عندها .
هذا مراده بالعزائم وليس المراد أن من سجود القرآن عَزائمَ ومنه غيرُ عزائم ف { عزائم } وصف كاشف } ولم ير سجود القرآن في شيء من المفصل ، ووافقه أصحابه عدا ابن وهب قرآها من عزائم السجود ، هي وسجدة سورة الانشقاق وسجدة سورة العلق مثل قول أبي حنيفة . وفي « المنتقى » : أنه قول ابن وهب وابن نافع .
وقال أبو حنيفة : هي من عزائم السجود . ونسب ابن العربي في « أحكام القرآن » مثله إلى الشافعي ، وهو المعروف في كتب الشافعية والحنابلة .
وإنما سجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها وإن كان الأمر في قوله : { فاسجدوا } مفرعاً على خطاب المشركين بالتوبيخ ، لأن المسلمين أولى بالسجود لله وليعضد الأمر القولي بالفعل ليبادر به المشركون . وقد كان ذلك مذكراً للمشركين بالسجود لله فسجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نسخ السجود فيها بعد ذلك فلم يروَ عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ، ولخبر زيد بن ثابت وأُبي بن كعب وعمل معظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة .