في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{فَٱسۡجُدُواْۤ لِلَّهِۤ وَٱعۡبُدُواْ۩} (62)

وهنا يرسلها صيحة مدوية ، ويصرخ في آذانهم وقلوبهم ، ويهتف بهم إلى ما ينبغي أن يتداركوا به أنفسهم ، وهم على حافة الهاوية :

( فاسجدوا لله واعبدوا ) .

وإنها لصيحة مزلزلة مذهلة في هذا السياق ، وفي هذه الظلال ، وبعد هذا التمهيد الطويل ، الذي ترتعش له القلوب :

ومن ثم سجدوا . سجدوا وهم مشركون . وهم يمارون في الوحي والقرآن . وهم يجادلون في الله والرسول !

سجدوا تحت هذه المطارق الهائلة التي وقعت على قلوبهم والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يتلو هذه السورة عليهم . وفيهم المسلمون والمشركون . ويسجد فيسجد الجميع . مسلمين ومشركين . لا يملكون أن يقاوموا وقع هذا القرآن ؛ ولا أن يتماسكوا لهذا السلطان . . ثم أفاقوا بعد فترة فإذا هم في ذهول من سجودهم كذهولهم وهم يسجدون !

بهذا تواترت الروايات . ثم افترقت في تعليل هذا الحادث الغريب . وما هو في الحقيقة بالغريب . فهو تأثير القرآن العجيب ووقعه الهائل في القلوب !

هذا الحادث الذي تواترت به الروايات . حادث سجود المشركين مع المسلمين . كان يحتاج عندي إلى تعليل . قبل أن تقع لي تجربة شعورية خاصة عللته في نفسي ، وأوضحت لي سببه الأصيل .

وكنت قد قرأت تلك الروايات المفتراة عما سمي بحديث الغرانيق ، الذي أورده ابن سعد في طبقاته ، وابن جرير الطبري في تاريخه . وبعض المفسرين عند تفسيرهم لقوله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ، فينسخ الله ما يلقي الشيطان ، ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ) . . . الخ . . وهي الروايات التي قال فيها ابن كثير - جزاه الله خيرا - [ ولكنها من طرق كلها مرسلة . ولم أرها مسندة من وجه صحيح ] .

وأكثر هذه الروايات تفصيلا وأقلها إغراقا في الخرافة والافتراء على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] رواية ابن أبي حاتم . قال : حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي ، حدثنا محمد بن إسحاق الشيبي ، حدثنا محمد ابن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب . قال : أنزلت سورة النجم ، وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ؛ ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم ، وأحزنه ضلالهم ؛ فكان يتمنى هداهم . فلما أنزل الله سورة النجم قال : ( أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ? )ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت فقال : وإنهن لهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى . . وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته . . فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة . وزلت بها ألسنتهم . وتباشروا بها . وقالوا : إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه . . فلما بلغ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] آخر النجم سجد ، وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك . غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه . فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين . ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين . . فاطمأنت أنفسهم - أي المشركون - لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وحدثهم به الشيطان أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد قرأها في السورة ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم . ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين : عثمان بن مظعون وأصحابه . وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، وصلوا مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه ، وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة ، فأقبلوا سراعا ، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم الله آياته ، وحفظه من الفرية . وقال : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي . . . الخ . . فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان ، انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين ، واشتدوا عليهم " . . انتهى .

وهناك روايات أخرى أجرأ على الافتراء تنسب قولة الغرانيق . . تلك . . إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتعلل هذا برغبته - حاشاه [ صلى الله عليه وسلم ] في مرضاة قريش ومهادنتها ! ! !

وقد رفضت منذ الوهلة الأولى تلك الروايات جميعا . . فهي فضلا عن مجافاتها لعصمة النبوة وحفظ الذكر من العبث والتحريف ، فإن سياق السورة ذاته ينفيها نفيا قاطعا . إذ أنه يتصدى لتوهين عقيدة المشركين في هذه الآلهة وأساطيرهم حولها . فلا مجال لإدخال هاتين العبارتين في سياق السورة بحال . حتى على قول من قال : إن الشيطان ألقى بهما في أسماع المشركين دون المسلمين . فهؤلاء المشركون كانوا عربا يتذوقون لغتهم . وحين يسمعون هاتين العبارتين المقحمتين ويسمعون بعدهما : ألكم الذكر وله الأنثى ? تلك إذا قسمة ضيزى . إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ، ما أنزل الله بها من سلطان . . الخ . ويسمعون بعد ذلك : إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم . إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا . . ويسمعون قبله : ( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) . . حين يسمعون هذا السياق كله فإنهم لا يسجدون مع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لأن الكلام لا يستقيم . والثناء على آلهتهم وتقرير أن لها شفاعة ترتجى لا يستقيم . وهم لم يكونوا أغبياء كغباء الذين افتروا هذه الروايات ، التي تلقفها منهم المستشرقون مغرضين أو جاهلين !

لغير هذا السبب إذن سجد المشركون . ولغير هذا السبب عاد المهاجرون من الحبشة ثم عادوا إليها بعد حين مع آخرين .

وليس هنا مجال تحقيق سبب عودة المهاجرين ، ثم عودتهم إلى الحبشة مع آخرين . .

فأما أمر السجود فهو الذي نتصدى له في هذه المناسبة . .

لقد بقيت فترة أبحث عن السبب الممكن لهذا السجود . ويخطر لي احتمال أنه لم يقع ؛ وإنما هي رواية ذكرت لتعليل عودة المهاجرين من الحبشة بعد نحو شهرين أو ثلاثة . وهو أمر يحتاج إلى التعليل .

وبينما أنا كذلك وقعت لي تلك التجربة الشعورية الخاصة التي أشرت إليها من قبل . .

كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعنا صوت قارئ للقرآن من قريب ، يتلو سورة النجم . فانقطع بيننا الحديث ، لنستمع وننصت للقرآن الكريم . وكان صوت القارئ مؤثرا وهو يرتل القرآن ترتيلا حسنا .

وشيئا فشيئا عشت معه فيما يتلوه . عشت مع قلب محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في رحلته إلى الملأ الأعلى . عشت معه وهو يشهد جبريل - عليه السلام - في صورته الملائكية التي خلقه الله عليها . ذلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبره الإنسان ويحاول تخيله ! وعشت معه وهو في رحلته العلوية الطليقة . عند سدرة المنتهى . وجنة المأوى . عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي ، وتحلق بي رؤاي ، وبقدر ما تطيق مشاعري وأحاسيسي . .

وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوتها وأنوثتها . . إلى آخر هذه الأوهام الخرفة المضحكة ، التي تتهاوى عند اللمسة الأولى .

ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ من الأرض ، وأمام الأجنة في بطون الأمهات . وعلم الله يتابعها ويحيط بها .

وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة . . الغيب المحجوب لا يراه إلا الله . والعمل المكتوب لا يند ولا يغيب عن الحساب والجزاء . والمنتهى إلى الله في نهاية كل طريق يسلكه العبيد . والحشود الضاحكة والحشود الباكية . وحشود الموتى . وحشود الأحياء . والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها ، وتخطو خطواتها وتبرز أسرارها فإذا هي ذكر أو أنثى . والنشأة الأخرى . ومصارع الغابرين . والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى !

واستمعت إلى صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمة : ( هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة ) . .

ثم جاءت الصيحة الأخيرة . واهتز كياني كله أمام التبكيت الرعيب : ( أفمن هذا الحديث تعجبون . وتضحكون ولا تبكون . وأنتم سامدون ? ) .

فلما سمعت : ( فاسجدوا لله واعبدوا ) . . كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقا إلى أوصالي . واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي ، لم أملك مقاومته . فظل جسمي كله يختلج ، ولا أتمالك أن أثبته ولا أن أكفكف دموعا هاتنة ، لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة !

وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح ، وأن تعليله قريب . إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن ، ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة . ولم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها . ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع ، وكانت مني هذه الاستجابة . . وذلك سر القرآن . . فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة ؛ وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير . فيكون منها ما يكون !

لحظة كهذه مست قلوب الحاضرين يومها جميعا . ومحمد [ صلى الله عليه وسلم ] يقرأ هذه السورة يقرؤها بكيانه كله . ويعيش في صورها التي عاشها من قبل بشخصه . وتنصب كل هذه القوة الكامنة في السورة من خلال صوت محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في أعصاب السامعين . فيرتجفون ويسمعون : ( فاسجدوا لله واعبدوا )ويسجد محمد والمسلمون . . فيسجدون . .

ولقد يقال : إنك تقيس على لحظة مرت بك ، وتجربة عانيتها أنت . وأنت مسلم . تعتقد بهذا القرآن ، وله في نفسك تأثير خاص . . وأولئك كانوا مشركين يرفضون الإيمان ويرفضون القرآن !

ولكن هنالك اعتبارين لهما وزنهما في مواجهة هذا الذي يقال :

الاعتبار الأول : أن الذي كان يقرأ السورة كان هو محمد [ صلى الله عليه وسلم ] النبي . الذي تلقى هذا القرآن مباشرة من مصدره . وعاشه وعاش به . وأحبه حتى لكان يثقل خطاه إذا سمع من يرتله داخل داره ، ويقف إلى جانب الباب يسمع له حتى ينتهي ! وفي هذه السورة بالذات كان يعيش لحظات عاشها في الملأ الأعلى . وعاشها مع الروح الأمين وهو يراه على صورته الأولى . . فأما أنا فقد كنت أسمع السورة من قارئ . والفارق ولا شك هائل !

والاعتبار الثاني : أن أولئك المشركين لم تكن قلوبهم ناجية من الرعشة والرجفة ، وهم يستمعون إلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] إنما كان العناد المصطنع هو الذي يحول بينهم وبين الإذعان . . والحادثان التاليان شاهد على ما كان يخالج قلوبهم من الارتعاش .

روى ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب ، من طريق محمد بن اسحاق ، عن عثمان بن عروة ، ابن الزبير ، عن أبيه ، عن هناد بن الأسود ، قال : كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزوا إلى الشام ، فتجهزت معهما ، فقال ابنه عتبة : والله لأنطلقن إلى محمد ، ولأوذينه في ربه " سبحانه وتعالى " . فانطلق حتى أتى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : يا محمد . هو يكفر بالذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى . . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " . . ثم انصرف عنه ، فرجع إلى أبيه ، فقال : يا بني ، ما قلت له ? فذكر له ما قاله . فقال : فما قال لك ? قال : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك . قال : يا بني والله ما آمن عليك دعاءه ! فسرنا حتى نزلنا أبراه - وهي في سدة - ونزلنا إلى صومعة راهب . فقال الراهب : يا معشر العرب ، ما أنزلكم هذه البلاد ? فإنها يسرح فيها الأسد كما تسرح الغنم ! فقال أبو لهب : إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي ؛ وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه ، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ، وافرشوا لابني عليها ، ثم افرشوا حولها . ففعلنا . فجاء الأسد فشم وجوهنا ، فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة فوق المتاع ، فشم وجهه ، ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه . فقال أبو لهب : قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد !

هذا هو الحادث الأول صاحبه أبو لهب . أشد المخاصمين لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] المناوئين له ، المؤلبين عليه هو وبيته . المدعو عليه في القرآن هو وبيته : ( تبت يدا أبي لهب وتب . ما أغنى عنه ماله وما كسب . سيصلى نارا ذات لهب . وامرأته حمالة الحطب . في جيدها حبل من مسد ) . . وذلك شعوره الحقيقي تجاه محمد وقول محمد . وتلك ارتجافة قلبه ومفاصله أمام دعوة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] على ابنه .

والحادث الثاني : صاحبه عتبة بن أبي ربيعة . وقد أرسلته قريش إلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ] يفاوضه في الكف عن هذا الذي فرق قريشا وعاب آلهتهم ، على أن يكون له منهم ما يريد من مال أو رياسة أو زواج . فلما انتهى من عرضه قال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " أفرغت يا أبا الوليد ? " قال : نعم . قال : " فاستمع مني " . قال : أفعل . قال : بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون . بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . . ثم مضى حتى قوله تعالى : ( فإن أعرضوا فقل : أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) . . عندئذ هب عتبة يمسك بفم النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في ذعر وهو يقول : ناشدتك الرحم أن تكف . . وعاد إلى قريش يقص عليهم الأمر . ويعقب عليه يقول : وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخشيت أن ينزل بكم العذاب .

فهذا شعور رجل لم يكن قد أسلم . والارتجاف فيه ظاهر . والتأثر المكبوت أمام العناد والمكابرة ظاهر .

ومثل هؤلاء إذا استمعوا إلى سورة النجم من محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فأقرب ما يحتمل أن تصادف قلوبهم لحظة الاستجابة التي لا يملكون أنفسهم إزاءها . وأن يؤخذوا بسلطان هذا القرآن فيسجدوا مع الساجدين . . بلا غرانيق ولا غيرها من روايات المفترين !