القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } .
يقول تعالى ذكره : والذين إذا ذكّرهم مذكر بحجج الله ، لم يكونوا صُما لا يسمعون ، وعميا لا يبصرونها . ولكنهم يقاظُ القلوب ، فهماء العقول ، يفهمون عن الله ما يذكّرهم به ، ويفهمون عنه ما ينبههم عليه ، فيوعون مواعظة آذانا سمعته ، وقلوبا وعته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لَمْ يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا فلا يسمعون ، ولا يبصرون ، ولا يفقهون حقا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآياتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا قال : لا يفقهون ، ولا يسمعون ، ولا يبصرون .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن ابن عون ، قال : قلت للشعبيّ : رأيت قوما قد سجدوا ، ولم أعلم ما سجدوا منه ، أسجد ؟ قال : وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآيات رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآياتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا قال : هذا مثل ضربه الله لهم ، لم يَدَعوها إلى غيرها ، وقرأ قول الله : إنّمَا المُؤْمِنُونَ الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهمْ . . . الاَية .
فإن قال قائل : وما معنى قوله يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا أَو يَخرّ الكافرون صُمّا وعُمْيانا إذا ذُكروا بآيات الله ، فُيْنَفى عن هؤلاء ما هو صفة للكفار ؟ قيل : نعم ، الكافر إذا تُليت عليه آيات الله خرّ عليها أصمّ وأعمى ، وخَرّه عليها كذلك ، إقامته على الكفر ، وذلك نظير قول العرب : سَبَبْتُ فلانا ، فقام يبكي ، بمعنى فظلّ يبكي ، ولا قيام هنالك ، ولعله أن يكون بكى قاعدا وكما يقال : نهيت فلانا عن كذا ، فقعديشتمني ومعنى ذلك : فجعل يشتمني ، وظلّ يشتمني ، ولا قعود هنالك ، ولكن ذلك قد جرى على ألسن العرب ، حتى قد فهموا معناه . وذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول : فعد يشتمني ، كقولك : قام يشتمني ، أقبل يشتمني قال : وأنشد بعض بني عامر :
لا يُقْنعُ الجارِيَةَ الخِضَابُ *** وَلا الوِشاحان وَلا الجِلْبابُ
مِن دونِ أن تَلْتَقِيَ الأرْكابُ *** وَيَقْعُدَ الأَيْرُ لَهُ لُعابُ
بمعنى : يصير ، فكذلك قوله : لَمْ يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا إنما معناه : لم يَصَمّوا عنها ، ولا عموا عنها ، ولم يصيروا على باب ربهم صُمّا وعمْيانا ، كما قال الراجز :
{ والذين إذا ذكروا بآيات ربهم } بالوعظ أو القراءة . { لم يخروا عليها صما وعميانا } لم يقيموا عليها غير واعين لها ولا متبصرين بما فيها كمن لا يسمع ولا يبصر ، بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية ، فالمراد من النفي نفي الحال دون الفعل كقولك لا يلقاني زيد مسلما وقيل الهاء للمعاصي المدلول عليها { باللغو } .
وقوله تعالى : { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم } ذكروا بالقرآن آخرتهم ومعادهم وقوله : { لم يخروا عليها صماً وعمياناً } يحتمل تأويلين : أحدهما أن يكون المعنى لم يكن خرورهم بهذه الصفة بل يكون سجداً وبكياً ، وهذا كما تقول لم يخرج زيد للحرب جزعاً أي إنما خرج جريئاً مقدماً . وكأن الذي يخر أصم وأعمى هو المنافق ، أو الشاك ، والتأويل الثاني ذهب إليه الطبري وهو أن يخروا صماً وعمياناً هي صفة للكافر وهي عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك . وقرن ذلك بقوله قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة .
قال الفقيه الإمام القاضي : وكان المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض وضل كان ذلك خروراً وهو السقوط على غير نظام ولا ترتيب وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجداً ، ولكن أصله أنه على غير ترتيب .
أريد تمييز المؤمنين بمخالفة حالة هي من حالات المشركين وتلك هي حالة سماعهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وما تشتمل عليه من آيات القرآن وطلب النظر في دلائل الوحدانية ، فلذلك جيء بالصلة منفية لتحصيل الثناء عليهم مع التعريض بتفظيع حال المشركين فإن المشركين إذا ذُكّروا بآيات الله خَرُّوا صُمّاً وعمياناً كحال من لا يحبّ أن يرى شيئاً فيجعل وجهه على الأرض ، فاستعير الخرور لشدة الكراهية والتباعد بحيث إن حالهم عند سماع القرآن كحال الذي يخرّ إلى الأرض لئلا يرى ما يكره بحيث لم يبق له شيء من التقوم والنهوض ، فتلك حالة هي غاية في نفي إمكان القبول .
ومنه استعارة القعُود للتخلف عن القتال ، وفي عكس ذلك يستعار الإقبال والتلقي والقيام للاهتمام بالأمر والعناية به .
ويجوز أن يكون الخرور واقعاً منهم أو من بعضهم حقيقة لأنهم يكونون جلوساً في مجتمعاتهم ونواديهم فإذا دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام طأطأوا رؤوسهم وقربوها من الأرض لأن ذلك للقاعد يقوم مقام الفرار ، أو ستر الوجه كقول أعرابي يهجو قوماً من طيء ، أنشدهُ المبرد :
إذا ما قيل أيُّهم لأيّ *** تشابهتْ المناكِبُ والرؤوس
وقريب من هذا المعنى قوله تعالى حكايةً في سورة نوح ( 7 ) { واستَغْشَوْا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً } وتقدم الخرور الحقيقي في قوله تعالى : { يخِرُّون للأذقان سُجّداً } في سورة الإسراء ( 107 ) ، وقوله : { فخَرّ عليهم السقف من فوقهم } [ النحل : 26 ] وقوله : { وخرّ موسى صَعِقاً } في الأعراف ( 143 ) .
وصمّاً وعُمْيَانَاً } حالان من ضمير { يخروا } ، مراد بهما التشبيه بحذف حرف التشبيه ، أي يخِرّون كالصمّ والعُميان في عدم الانتفاع بالمسموع من الآيات والمبصرَ منها مما يُذكَّرون به . فالنفي على هذا منصبّ إلى الفعل وإلى قيده ، وهو استعمال كثير في الكلام . وهذا الوجه أوجه .
ويجوز أن يكون توجّه النفي إلى القيد كما هو استعمال غالبٌ وهو مختار صاحب « الكشاف » ، فالمعنى : لم يخرّوا عليها في حالة كالصمم والعمى ولكنهم يخرّون عليها سَامعين مبصرين فيكون الخرور مستعاراً للحرص على العمل بشراشر القلب ، كما يقال : أكَبّ على كذا ، أي صرف جهده فيه ، فيكون التعريض بالمشركين في أنهم يصمون ويعمون عن الآيات ومع ذلك يخرّون على تلقّيها تظاهراً منهم بالحرص على ذلك . وهذا الوجه ضعيف لأنه إنما يليق لو كان المعرَّض بهم منافقين ، وكيف والسورة مكية فأما المشركون فكانوا يُعرِضون عن تلقي الدعوة علَناً ، قال تعالى : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه لعلّكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] . وقال : { وقالوا قلوبنا في أكِنّة مما تَدْعُونا إليه وفي آذانِنا وقر ومِن بينِنا وبينِك حجاب } [ فصلت : 5 ] .