قوله تعالى : { قل إن صلاتي ونسكي } ، قيل : أراد بالنسك الذبيحة في الحج والعمرة ، وقال مقاتل : نسكي : حجي ، وقيل : ديني . قوله تعالى : { ومحياي ومماتي } ، أي : حياتي ووفاتي .
قوله تعالى : { لله رب العالمين } ، أي : هو يحييني ويميتني ، وقيل : محياي بالعمل الصالح ، ومماتي إذا مت على الإيمان لله رب العاملين ، وقيل : طاعتي في حياتي لله ، وجزائي بعد مماتي من الله رب العالمين . قرأ أهل المدينة : { محياي } بسكون الياء ، و{ مماتي } بفتحها ، وقراءة العامة { محياي } بفتح الياء لئلا يجتمع ساكنان .
ثم قل لهم للمرة الثانية : إن صلاتى التى أتوجه بها إلى ربى { وَنُسُكِي } أى عبادتى وتقربى إليه - وهو من عطف العام على الخاص - وقيل المراد به ذبائح الحج والعمرة . { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } أى : ما أعمله فى حياتى من أعمال وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح .
كل ذلك { للَّهِ رَبِّ العالمين } فأنا متجرد تجرداً كاملا لخالقى ورازقى بكل خالجة فى القلب ، وبكل حكة فى هذه الحياة .
وقوله { قل إن صلاتي } الآية ، أمر من الله عز وجل أن يعلن بأن مقصده في صلاته وطاعته من ذبيحة وغيرها وتصرفه مدة حياته وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته إنما هو لله عز وجل وإرادة وجهه طلب رضاه ، وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عز وجل ، ويحتمل أن يريد بهذه المقالة أن صلاته ونسكه وحياته وموته بيد الله عز وجل يصرفه في جميع ذلك كيف شاء وأنه قد هداه من ذلك إلى صراط مستقيم ، ويكون قوله { بذلك أمرت } على هذا التأويل راجعاً إلى قوله { لا شريك له } فقط أو راجعاً إلى القول الأول وعلى التأويل الأول يرجع على جميع ما ذكر من صلاة وغيرها ، أي أمرت بأن أقصد وجه الله عز وجل في ذلك وأن التزم العمل ، وقرأ جمهور الناس «ونسُكي » بضم السين ، وقرأ أبو حيوة والحسن بإسكان السين ، وقالت فرقة «النسك » في هذه الآية الذبائح .
قال القاضي أبو محمد : ويحسن تخصيص الذبيحة بالذكر في هذه الآية أنها نازلة قد تقدم ذكرها والجدل فيها في السورة ، وقالت فرقة : «النسك » في هذه الآية جميع أعمال الطاعات من قولك نسك فلان فهو ناسك إذا تعبد{[5181]} ، وقرأ السبعة سوى نافع و «محيايَ ومماتي » بفتح الياء من «محياي » وسكونها من «مماتي » وقرأ نافع وحده و «محياي » بسكون الياء من «محياي » ، قال أبو علي الفارسي وهي شاذة في القياس لأنها جمعت بين ساكنين ، وشاذة في الاستعمال ووجهها أنه قد سمع من العرب التقت حلقتا البطان{[5182]} ولفلان ثلثا المال{[5183]} ، وروى أبو خليد عن نافع و «محيايِ » بكسر الياء ، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والجحدري و «محيي » ، وهذه لغة هذيل ومنه قول أبي ذؤيب :
سبقوا هويَّ وأعنقوا لهواهم . . . فتصرعوا ولكل جنب مصرع{[5184]}
وقرأ عيسى بن عمر «صلاتيَ ونسكيَ ومحيايَ ومماتيَ » بفتح الياء فيهن ، وروي ذلك عن عاصم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، الذين يسألونك أن تتّبع أهواءهم على الباطل من عبادة الآلهة والأوثان:"إنّ صَلاتي ونُسُكي" يقول: وذبحي. "وَمحْيايَ "يقول: وحياتي. "وَمَماتِي" يقول: ووفاتي. "لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ" يعني أن ذلك كله له خالصا دون ما أشركتم به أيها المشركون من الأوثان.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} يخرج على وجهين: أحدهما: يخرج على الأمر بالدعاء لنفسه؛ لأنه قال: {قل} أجعل {صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}. والثاني: على المنابزة مع أولئك الكفرة والفجرة؛ يقول: أنا أجعل صلاتي وعبادتي ومحياي ومماتي لله، لا أجعل لغيره شركا كما جعلتم أنتم شركاء في عبادته وصلاته ونسكه، والله أعلم. ثم اختلف في قوله تعالى: {صلاتي} قال بعضهم: الصلاة: المفروضة، وقال بعضهم: الصلاة: الخضوع والثناء؛ يقول: إن خضوعي وثنائي لله. والصلاة، هي الثناء في اللغة...
وقوله تعالى: {ومحياي ومماتي لله رب العالمين} أي أنا حي وميت لله، لا أشرك أحدا في عبادتي [ونسكي] بل كلي لله، لا شريك له] في ذلك...
{قُلْ إِنَّ صَلاتي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ ومَمَاتِي لله رَبِّ العَالَمِينَ}. قال سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي:"نُسُكي: ديني في الحج والعمرة". وقال الحسن: "نسكي: ديني". وقال غيرهم: "عبادتي". إلا أن الأغلب عليه هو الذبح الذي يُتَقَرَّبُ به إلى الله تعالى، وقولهم: فلان ناسك، معناه عابد لله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويقال مَنْ عَلمَ أنه بالله علم أنه لله، فإذا علم لله لم يَبقَ فيه نصيب لغير الله؛ فهو مستسلمٌ لحكم الله، لا مُعْتَرِضٌ على تقدير الله، ولا معارِضٌ لاختيار الله، ولا مُعْرِضٌ عن اعتناق أمر الله...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{قل إن صلاتي ونسكي} عبادتي من حجي وقرباني {ومحياي ومماتي لله رب العالمين} أي هو يحييني وهو يميتني وأنا أتوجه بصلاتي وسائر المناسك إلى الله لا إلى غيره...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي} وعبادتي وتقرّبي كله...
{وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي} وما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح {للَّهِ رَبّ العالمين} خالصة لوجهه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله {قل إن صلاتي...} أمر من الله عز وجل أن يعلن بأن مقصده في صلاته وطاعته من ذبيحة وغيرها وتصرفه مدة حياته وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته إنما هو لله عز وجل وإرادة وجهه طلب رضاه، وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عز وجل، ويحتمل أن يريد بهذه المقالة أن صلاته ونسكه وحياته وموته بيد الله عز وجل يصرفه في جميع ذلك كيف شاء وأنه قد هداه من ذلك إلى صراط مستقيم، ويكون قوله {وبذلك أمرت} على هذا التأويل راجعاً إلى قوله {لا شريك له} فقط أو راجعاً إلى القول الأول وعلى التأويل الأول يرجع على جميع ما ذكر من صلاة وغيرها، أي أمرت بأن أقصد وجه الله عز وجل في ذلك وأن التزم العمل... ويحسن تخصيص الذبيحة بالذكر في هذه الآية أنها نازلة قد تقدم ذكرها والجدل فيها في السورة، وقالت فرقة: «النسك» في هذه الآية جميع أعمال الطاعات من قولك نسك فلان فهو ناسك إذا تعبد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان كأن سائلاً قال: وما هذه الملة التي تكرر مدحها والدعاء إليها؟ أجاب بقوله ليتأسى به أهل الإيمان، فيلتزموا جميع ما يدعو إليه على وجه الإخلاص: {قل إن صلاتي} أي التي هي لباب الدين وصفاوته {ونسكي} أي جميع عبادتي من الذبائح وغيرها {ومحياي} أي حياتي وكل ما تجمعه من زمان ومكان وفعل {ومماتي لله} أي الملك الأعظم الذي لا يخرج شيء عن أمره؛ ولما علم بالاسم الأعظم أنه يستحق ذلك لذاته، أعلم أنه يستحقه من كل أحد لإحسانه إليه وإنعامه عليه فقال: {رب العالمين} الموجد والمدبر والموعي لهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هذا بيان إجمالي لتوحيد الإلهية بالعمل، بعد بيان أصل التوحيد المجرد بالإيمان، والمراد بالصلاة جنسها الشامل للمفروض والمستحب. والنسك في الأصل العبادة أو غايتها، والناسك العابد، ويكثر استعماله في القرآن والحديث في عبادة الحج وعبادة الذبائح والقرابين فيه أو مطلقا، وفسر بالوجهين قوله تعالى في حكاية دعاء إبراهيم وإسماعيل {وأرنا مناسكنا} (البقرة 127) وأما قوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا} (البقرة 200) فلا خلاف في أن المراد به عبادات الحج كلها كما أن لا خلاف في تخصيص النسك ببعض الذبائح في قوله تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} (البقرة 196) فالنسك في هذه الفدية ذبح شاة وقوله تعالى في سورة الحج: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} (الحج 34).
قد عين السياق كون المراد بالنسك فيه القرابين التي تذبح أو تنحر تقربا إليه تعالى وبعد هذه الآية آيات أخرى في ذلك خاصة. وأما قوله بعد آيات أخرى منها: {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعك في الأمر وادع إلى ربك أنك لعلى هدى مستقيم} (الحج 67) فالسياق يدل على أنه أعم ما ورد من هذا الحرف في القرآن وأنه بمعنى الدين أو الشريعة وهو ما قدمه بعضهم ولكن روي تفسيره في المأثور بالذبح وفسره بعضهم بالعيد...
وعلى هذا التفسير للنسك يكون الجمع بين الصلاة وذبح النسك كالأمر بهما في قوله تعالى: {فصل لربك وانحر} (الكوثر 2) وإذا فسر النسك بالعبادة مطلقا يكون عطفه على الصلاة من عطف العام على الخاص لأنها منه، وإلا كان سبب الاقتصار عل ذكر هذين النوعين أو الثلاثة من العبادة هو كونها أعظم مظاهر العبادة التي فشا فيها الشرك؛ فأما الصلاة فروحها الدعاء والتعظيم وتوجه القلب إلى المعبود والخوف منه والرجاء فيه وكل ذلك مما يقع فيه الشرك ممن يغلون في تعظيم الصالحين وما يذكر بهم كقبورهم أو صورهم وتماثيلهم، وأما الحج والذبائح فالشرك فيهما أظهر وقلما يقع الشرك في الصيام لأنه أمر سلبي خفي... وقد كانت الذبائح عند الوثنيين من العبادات يقربونها لآلهتهم ويهلون بها لهم، ثم سرى ذلك إلى بعض أهل الكتاب فخرجوا بقرابينهم عما شرعت له من كفارة يتقرب بها إلى الله وحده، فصاروا يهلون بها للأنبياء والصالحين، وينذرونها لأولئك القديسين، وذلك كله من عبادة الشرك فمن فعلها من المسلمون فله حكم من فعلها من أولئك المشركين كما تقدم تفصيله في تفسير {ما أهل به لغير الله} (البقرة 173) من هذه السورة وسورتي البقرة والمائدة...
والعبادات إنما تمتاز على العادات بالتوجه فيها إلى المعبود تقربا إليه وتعظيما له وطلبا لمثوبته ومرضاته، وكل من يتوجه إليه المصلي أو الذابح بذلك ويقصد به تعظيمه فهو معبود له، سواء عبر فاعله عن ذلك بقول يدل عليه أم لا؟ فالعبادة لا تنبغي إلا لله رب العباد وخالقهم، فإن توجه أحد إليه وإلى غيره من عباده المكرمين أو غيرهم مما يستعظم خلقه كان مشركا والله لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم.
إن كون الصلة والنسك لا يكونان في الدين الحق إلا خالصين لله وحده أمر ظاهر يعد من ضرورات الدين. وأما المحيا والممات فهما...بمعنى الحياة والموت... والمتبادر أن معنى كون حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وموته وكذا من تأسى به لله وحده هو أنه قد وجه وجهه وحصر نيته وعزمه في حبس حياته لطاعته ومرضاته تعالى وبذلها في سبيله ليموت على ذلك كما يعيش عليه...
وبهذا تكون الآية جامعة لجميع الأعمال الصالحة التي هي غرض المؤمن الموحد من حياته وذخيرته لمماته بجعلها خالصة لله رب العالمين. ولفظ الجلالة (الله) و "رب العالمين "لم يكن المشركون يطلقونهما على معبوداتهم ولا معبودات غيرهم المتخذة التي أشركوها مع الخالق سبحانه وتعالى... فتذكر أيها المؤمن أن الذي يوطن نفسه على أن تكون حياته لله ومماته لله يتحرى الخير والصلاح والإصلاح في كل عمل من أعماله ويطلب الكمال في ذلك لنفسه ليكون قدوة في الحق والخير في الدنيا وأهلا لرضوان ربه الأكبر في الآخرة، ثم يتحرى أن يموت ميتة مرضية لله تعالى فلا يحرص على الحياة لذاتها ولا يخاف الموت فيمنعه الخوف من الجهاد في سبيل الله لإحقاق الحق وإبطال الباطل وإقامة ميزان العدل والأخذ على أيدي أهل الجور والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهذا مقتضى الدين يقوم به من يأخذه بقوة، ولا يفكر فيه من يكتفون بجعله من قبيل الروابط الجنسية، والتقاليد الاجتماعية فأين أهل المدنية المادية من أهل الدين إذا أقاموه كما أمر الله؟ أولئك الماديون الذين لا هم لهم في حياتهم إلا التمتع بالشهوات الحيوانية، والتعديات الوحشية...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قل: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له. وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).. إنه التجرد الكامل لله، بكل خالجة في القلب وبكل حركة في الحياة. بالصلاة والاعتكاف. وبالمحيا والممات. وبالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات وما وراءه. إنها تسبيحة "التوحيد "المطلق، والعبودية الكاملة، تجمع الصلاة والاعتكاف والمحيا والممات، وتخلصها لله وحده. لله (رب العالمين).. القوام المهيمن المتصرف المربي الموجه الحاكم للعالمين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف أيضاً، يتنزّل منزلة التّفريع عن الأوّل، إلاّ أنَّه استؤنف للإشارة إلى أنّه غرض مستقلّ مُهِمّ في ذاته، وإن كان متفرّعاً عن غيره، وحاصل ما تضمّنه هو الإخلاص لله في العبادة، وهو متفرّع عن التّوحيد، ولذلك قيل: الرياءُ الشّرك الأصغر. عُلّم الرّسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله عقب ما عُلّمه بما ذكر قبله لأنّ المذكور هنا يتضمّن معنى الشّكر لله على نعمة الهداية إلى الصّراط المستقيم، فإنَّه هداه ثمّ ألهمه الشّكر على الهداية بأن يجعل جميع طاعته وعبادته لله تعالى. وأعيد الأمر بالقول لما علمتَ آنفاً.
وافتتحت جملة المقول بحرف التّوكيد للاهتمام بالخبر ولتحقيقه، أو لأنّ المشركين كانوا يزعمون أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام كان يُرائي بصلاته، فقد قال بعض المشركين لمَّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي عند الكعبة: « ألاَ تنظرون إلى هذا المُرائي أيُّكم يقوم إلى جَزور بني فلان فيعمِد إلى فَرثها وسلاها فإذا سجد وضعه بين كتفيه». فتكون (إنّ) على هذا لردّ الشكّ.
واللاّم في {لله} يجوز أن تكون للملك، أي هي بتيسير الله فيكون بياناً لقوله: {إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم} [الأنعام: 161]. ويجوز أن تكون اللام للتعليل أي لأجل الله.
وجعل صلاته لله دون غيره تعريضاً بالمشركين إذ كانوا يسجدون للأصنام. ولذلك أردف بجملة {لا شريك له}.
والنّسك حقيقته العبادة ومنه يسمى العابد الناسك.
والمحْيَا والممات يستعملان مصدرين ميميين، ويستعملان اسمي زمان، من حيي ومات، والمعنيَان محتمَلان فإذا كان المراد من المحيا والممات المعنى المصدري كان المعنى على حذف مضاف تقديره: أعمال المحيَا وأعمال الممات، أي الأعمال التي من شأنها أن يتلبّس بها المرء مع حياته، ومع وقت مماته. وإذا كان المراد منهما المعنى الزمني كان المعنى ما يعتريه في الحياة وبعد الممات.
ثمّ إنّ أعمال الحياة كثيرة وفيرة، وأمّا الأعمال عند الموت فهي ما كان عليه في مدّة الحياة وثباتُه عليه، لأنّ حالة الموت أو مدّته هي الحالة أو المدّة التي تنقلب فيها أحوال الجسم إلى صفة تؤذن بقرب انتهاء مدّة الحياة وتلك حالة الاحتضار، وتلك الحالة قد تؤثّر انقلاباً في الفكر أو استعجالاً بما لم يكن يستعجل به الحي، فربّما صدرت عن صاحبها أعمال لم يكن يصدرها في مدّة الصحّة، اتّقاءً أو حياءً أو جلباً لنفع، فيرى أنَّه قد يئس ممّا كان يُراعيه، فيفعل ما لم يكن يفعل، وأيضاً لتلك الحالة شؤون خاصّة تقع عندها في العادة مثل الوصيّة، وهذه كلّها من أحوال آخر الحياة، ولكنّها تضاف إلى الموت لوقوعها بقربه، وبهذا يكون ذكر الممات مقصوداً منه استيعاب جميع مدّة الحياة حتّى زمن الإشراف على الموت...
وبقوله: {ومحياي ومماتي لله رب العالمين} تحقّق معنى الإسلام الذي أصله الإلقاء بالنّفس إلى المُسْلَم له، وهو المعنى الذي اقتضاه قوله: {فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن} كما تقدّم في سورة آل عمران (20)، وهو معنى الحنيفية الذي حكاه الله تعالى عن إبراهيم عليه السّلام في قوله: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} كما في سورة البقرة (131).
وقوله: {رب العالمين} صفة تشير إلى سبب استحقاقه أن يكون عمل مخلوقاته له لا لغيره، لأنّ غيره ليس له عليهم نعمة الإيجاد، كما أشار إليه قوله في أوّل السورة (1): {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.} وجملة: {لا شريك له} حال من اسم الجلالة مصرّحة بما أفاده جمع التّوكيد مع لام الملك من إفادة القصر. والمقصود من الصّفة والحال الردّ على المشركين بأنَّهم ما أخلصوا عملهم للذي خلقهم، وبأنَّهم أشركوا معه غيره في الإلهيّة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وضرب كتاب الله المثل للمسلمين كيف يتوجهون إليه في صلاتهم، وكيف يعبدون الله خاشعين مطيعين، وكيف يسخرون جميع طاقاتهم ومواهبهم في سبيله، وكيف يجب أن يحيوا ويموتوا من أجله وابتغاء مرضاته، فلقن الحق سبحانه وتعالى نبيه قائلا ليكون ذلك قدوة لأمته: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين}.
وهنا أمران اختياريان، وأمران لا اختيار للإنسان فيهما، الصلاة والمناسك كلاهما داخل في قانون الاختيار، لكن المحيا والممات لا يدخل أي منهما في قانون الاختيار؛ إنهما في يد الله، والصلاة والنسك أيضا لله، ولكن باختيارك، وأنت لا تصلي إلا لأنك آمنت بالآمر بالصلاة، أو أن الجوارح ما فعلت كذا إلا لله. إذن فأنت لم تفعل شيئا من عندك أنت، بل وجهت الطاقات المخلوقة لله لتأدية المنهج الذي أنزله الله. إذن إن أردت نسبة كل فعل فانسبه إلى الله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية اللاحقة تشير إِلى أنّه على النّبي أن يقول: إِنّي لست موحداً من حيث العقيدة فحسب، بل إِني أعمل كل عمل صالح: (قل إِنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين)، فأنا أحيى لله، وله أموت، وأفدي بكل شيء لأجله، وكل هدفي وكل حبّي بل كل وجودي له.
و«النُسُك» يعني في الأصل العبادة، ولذا يقال: للعابد: ناسك، ولكن هذه الكلمة تطلق في الأغلب على أعمال الحج فيقال: مناسك الحج.
وقد احتمل البعض أن يكون الموارد من «النُسُك» هنا هو «الأُضحيّة»،
ولكن الظاهر أنّه يشمل كل عبادة، وهو إِشارة أوّلا إِلى الصّلاة كأهم عبادة، ثمّ إِلى سائر العبادات بشكل كلّي، يعني صلاتي وكل عباداتي، بل وحتى موتي وحياتي كلها له تعالى.