لمَّا عرّفه الدِّين المُستقِيم ، عرَّفه كيف يقُوم به ويؤدِّيه ، وهذ الآية الكريمة تدلُ على أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مؤدِّي العِبَادة مع الإخْلاص ، وأكده بقوله -تبارك وتعالى- : { لاَ شَرِيكَ لَه } وهذا من أقْوَى الدَّلائل على أنَّ شَرْط صحة الصَّلاة : أن يُؤتَى بها مَقْرُونةً بالإخْلاصِ .
واخْتَلَفُوا في المُرَاد بالنُّسُك :
فقيل : المُرَاد به : الذَّبِيحَة بعينها ، وجمع بين الصَّلاة وبين النَّحر ؛ كما في قوله-تبارك وتعالى- : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر } [ الكوثر : 2 ] ، فقيل : المراد بالصلاة هاهنا صلاة النَّحْر ، وقيل : صلاةُ اللَّيْل{[15677]} .
وروى ثَعْلَب عن ابن الأعْرَابيِّ{[15678]} أنه قال : النُّسُك : سَبَائِك الفِضَّة ، كل نَسِيكة منها سَبيكة ، وقيل للمُتعَبِّد : نَاسِكٌ ، لأنه خلَّص نفسه من دنَائِس الآثَم وصفَّاها ، كالسَّبيكة المُخَلَّصَة من الخَبَث ، وعلى هذا التَّأويل فالنُّسُك : كل ما يُتَقرَّبُ به إلى اللَّه -تبارك وتعالى- ، إلاَّ أن الغَالِب عليه في العُرْف : الذَّبْح .
قوله : { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّه } .
قرأ نافع{[15679]} : " ومَحْيايْ " بسكون ياء المُتكلِّم ، وفيها الجَمع بين سَاكِنَيْن .
قال الفارسي : كقوله : " التَقَتْ حَلْقَتَا البطَانِ " و " لِفُلانٍ ثُلُثَا المَالِ " بثبوت الألفين .
وقد طَعَن بَعْضُ النَّاس على هذه القراءة بما ذَكَرْت من الجَمْع بَيْن السَّاكِنين ، وتعجَّبت من كَوْن هذا القَارئ يُحَرك ياء " مُمَاتِيَ " ويُسَكِّن ياء " مَحْيَايْ " وقد نقل بَعضُهُم عن نافع الرُّجوع عن ذلك .
قال أبُو شامة- رحمه الله عليه - : " فَيَنْبَغِي ألاَّ يَحِلَّ نَقْلُ تسْكِين ياء " مَحْيَايَ " عنه " .
وقرأ{[15680]} نافع في رواية : " مَحْيَاي " بكسر الياءِ ، وهي تشبه قراءة حَمْزَة في { بِمُصْرِخِيَّ } [ إبراهيم : 22 ] ، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - .
وقرا ابنُ أبي إسحاق{[15681]} ، وعيسى الجَحْدَرِيُّ : " ومَحْيَيَّ " بإبْدال " الألف " " ياء " ، وإدغَامِها في ياء المُتَكلِّم ، وهي لُغة هُذَيْل ، أنشد عليها قول أبي ذُؤيْب : [ الكامل ]
سَبَقُوا هَوَيَّ وأعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ *** فَتُخُرِّمُوا ولِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرعُ{[15682]}
اعلم : أن المَحيْا والممَاتِ للَّه لَيْس بمعنى أنَّهُما يُؤتَى بِهِمَا لطاعة الله - عزَّ وجلَّ - ، فإن ذلك مُحَال ، بَلْ معنى كوْنِهِما للَّه أنَّهُمَا حَاصِلان بِخَلْقِ اللَّه ، وذلك مِنْ أدلِّ الدِّلائل على أنَّ طاعة العَبْد مَخْلُوقة منه – تعالى -{[15683]} .
وقال بَعْضُ المفسِّرين{[15684]} : " مَحْيَايَ : بالعمل الصالح ، ومَمَاتِي : إذا مِتُّ على الإيمان من رب العَالمِين " .
واعلم : أنَّه -تبارك وتعالى- أمرَ رسُوله صلى الله عليه وسلم بأن يُبَيِّن أنَّ صلاته ، وسَائر عِباداتِه ، وحياته ، ومَمَاتِه كُلِّها واقعةٌ بخلق اللَّه-تبارك وتعالى- وبقدره ، وقضَائه ، وحُكْمِه .
وقال القُرْطُبِيُّ{[15685]} - رحمه الله عليه - : قوله : " ومَحْيَايَ " أي : ما أعْمَله في حَيَاتِي ، و " مَمَاتِي " أي : ما اوصِي به بَعْد وَفَاتِي " لِلَّهِ ربِّ العَالمِين " أي : أُفْرِدُهُ بالتَّقَرُّب بها إليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.