ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك ، جانبا من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه ، فبدأت بحكاية بعض المحاورات التي دارت بينه وبينهم ، فقال - تعالى - :
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ . . . } .
قوله - سبحانه - { ثُمَّ بَعَثْنَا . . } معطوف على ما قبله وهو قوله : ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ . . . ) من باب عطف القصة على القصة ، وهو من قبيل عطف الخاص على العام ، لما في هذا الخاص من عبر وعظات .
والمعنى : ثم بعثنا من بعد هؤلاء الرسل الكرام الذين جاءوا لأقوامهم بالأدلة والبينات . { موسى وَهَارُونَ } عليهما السلام . . { إلى فِرْعَوْنَ } الذي قال لقومه " أنا ربكم الأعلى " وإلى { ملئه } أى : خاصته وأشراف مملكته وأركان دولته ، ولذلك اقتصر عليهم ، لأن غيرهم كالتابع لهم .
{ بِآيَاتِنَا } أى : بعثناهما إليهم مؤيدين بآياتنا ، الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا وعلى صدقهما فيما يبلغانه عنا من هدايات وتوجيهات .
ويرى كثير من المفسرين أن المراد بقوله { بِآيَاتِنَا } الآيات التسع التي جاء ذكرها في قوله تعالى في سورة الإِسراء { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ . . . } قال الجمل : " وتقدم في الأعراف منها ثمانية ، ثنتان في قوله - تعالى - { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هي ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } وقوله : { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هي بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } وواحدة في قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } وخمسة في قوله - تعالى - : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم . . . } والتاسعة في هذه السورة - سورة يونس - في قوله - تعالى - : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ } ثم بين - سبحانه - موقف فرعون وملئه من دعوة موسى لهم فقال : { فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } .
والاستكبار : ادعاء الكبر من غير استحقاق ، والفاء فصيحة ، والتقدير : ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى وهارون إلى فرعون وملئه ، فأتياهم ليبلغاهم دعوة الله ، ويأمراهم بإخلاص العبادة له ، فاستكبروا عن طاعتهما ، وأعجبوا بأنفسهم ، وكانوا قوما شأنهم وديدنهم الإِجرام ، وهو ارتكاب ما عظم من الذنوب ، وقبح من الأفعال .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة : " فاستكبروا عن قبولها ، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها ، ويتعظموا عن تقبلها " .
يقول تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا } من بعد تلك الرسل { مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي : قومه . {[14341]} { بِآيَاتِنَا } أي : حجَجنا وبراهيننا ، { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } أي : استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له ، { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ } كأنهم - قبَّحهم الله - أقسموا على ذلك ، وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان ، كما قال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] .
{ قَاَلَ } لهم { مُوسَى } منكرا عليهم : { أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } أي : تثنينا { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : الدّين الذي كانوا عليه ، { وَتَكُونَ لَكُمَا } أي : لك ولهارون { الْكِبْرِيَاء } أي : العظمة والرياسة { فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } .
وكثيرًا ما يذكر الله تعالى قصة موسى ، عليه السلام ، مع فرعون في كتابه العزيز ؛ لأنها من أعجب القصص ، فإن فرعون حَذر من موسى كل{[14342]} الحذر ، فسخره القدر أن رَبَّى هذا الذي يُحذَّر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ، ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم ، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم ، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده{[14343]} ويرجع إليه ، هذا ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان ، فجاءه برسالة الله ، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه{[14344]} السلام ، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية ، والنفس الخبيثة الأبية ، وقوى رأسه وتولّى بركنه ، وادعى ما ليس له ، وتجهرم على الله ، وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل ، والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون ، ويحوطهما ، بعنايته ، ويحرسهما بعينه التي لا تنام ، ولم تزل{[14345]} المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا{[14346]} بعد شيء ، ومرة{[14347]} بعد مرة ، مما يبهر العقول ويدهش الألباب ، مما لا يقوم له شيء ، ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله ، وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها ، وصمم فرعون وَمَلَؤه - قبحهم الله - على التكذيب بذلك كله ، والجحد والعناد والمكابرة ، حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرَد ، وأغرقهم في صبيحة{[14348]} واحدة أجمعين ، { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 45 ] .
والضمير في { بعدهم } على الرسل ، والضمير في { ملئه } عائد على { فرعون } ، والملأ : الجماعة من قبيلة وأهل مدينة ، ثم يقال للأشراف والأعيان من القبيلة أو البلد ملأ ، أي هم يقومون مقام الملأ ، وعلى هذا الحد هي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قريش بدر : «أولئك » الملأ «وكذلك هي في قوله تعالى : { إن الملأ يأتمرون بك }{[6185]} . وأما في هذه الآية فهي عامة لأن بعثة موسى وهارون كانت إلى فرعون وجميع قومه من شريف ومشروف ، وقد مضى في { المص } [ الأعراف : 1 ] ، ذكر ما بعث إليهم فيه ، و الآيات : البراهين والمعجزات وما في معناها ، وقوله { فاستكبروا } أي تعظموا وكفروا بها ، و { مجرمين } معناه يرتكبون ما لم يبح الله ويجسرون من ذلك على الخطر الصعب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.