نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِم مُّوسَىٰ وَهَٰرُونَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦ بِـَٔايَٰتِنَا فَٱسۡتَكۡبَرُواْ وَكَانُواْ قَوۡمٗا مُّجۡرِمِينَ} (75)

وكان فرعون قد قوي ملكه وعظم سلطانه وعلا في كبريائه وطال تجبره على الضعفاء ، فطمست أمواله وآثاره ، وبقيت أحاديثه وأخباره ،

ولهذا أفصح سبحانه بقصته فقال : دالاً على الطبع{[38283]} : { ثم بعثنا } أي وبعد زمن طويل من إهلاكنا إياهم بعثنا ، ولعدم استغراق زمن البعد أدخل الجار فقال : { من بعدهم } أي من{[38284]} بعد أولئك الرسل { موسى و } كذا بعثنا { هارون } تأييداً له لأن اتفاق اثنين أقوى لما يقررانه وأوكد لما يذكرانه ؛ ولما استقر في الأذهان بما مضى أن ديدن الأمم تكذيب من هو منهم حسداً له ونفاسة عليه ، كان ربما ظن أن الرسول لو أتى غير قومه كان الأمر{[38285]} على غير ذلك ، فبين أن الحال واحد في القريب والغريب{[38286]} ، فقال مقدماً لقوله : { إلى فرعون وملئه } أي الأشراف من قومه ، فإن الأطراف تبع لهم { بآياتنا } أي{[38287]} التي لا تكتنه عظمتها{[38288]} لنسبتها إلينا ، فطبعنا على قلوبهم { فاستكبروا } أي طلبوا الكبر على قبول الآيات وأوجدوا ما يدل عليه من الرد بسبب انبعاثه إليهم عقب ذلك { وكانوا } أي جبلة وطبعاً { قوماً مجرمين* } أي طبعهم قطع ما ينبغي وصله ووصل ما ينبغي قطعه ، فلذلك اجترؤوا على الاستكبار مع ما فيها أيضاً من شديد المناسبة لما تقدم من قول الكافرين { هذا سحر مبين } في نسبة موسى عليه السلام إليه وبيان حقيقة السحر في زواله وخيبته متعاطية لإفساده إلى غير ذلك من الأسرار التي تدق عن الأفكار ، هذا إلى ما ينظم إليه من مناسبة ما بين إهلاك القبط وقوم نوح بآية الغرق ، وأنه لم ينفع أحداً من الفريقين معاينة الآيات ومشاهدة الدلالات البينات ، بل ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه بعد تلك المعجزات الباهرة والبراهين الظاهرة ، ثم اتبعهم فرعون بعد أن كانت انحلت عن حبسهم عراه ، وتلاشت من تجبره قواه ، وشاهد من الضربات ما يهد الجبال ، ودخل في طلبهم البحر بحزات{[38289]} لا يقرب{[38290]} ساحتها الأبطال ، لما قدره عليه ذو الجلال ، ولم يؤمن حتى أتاه البأس حيث يفوت الإيمان بالغيب الذي هو شرط{[38291]} الإيمان ، فلم ينفعه إيمانه مع اجتهاده فيه وتكريره لفوات شرطه إجابة لدعوة موسى عليه السلام ، {[38292]}ثم إن بني إسرائيل كانوا قبل مجيء موسى عليه السلام على منهاج واحد . فما اختلفوا إلا بعد مجيء العلم إليهم وبيان الطريق واضحة لديهم ، ولهذا المراد ذكر هنا هارون عليه السلام{[38293]} لأن من أعظم مقاصد السورة المنع من طلب الآيات لمن بعد الإيمان عند الإتيان بها ، إشارة إلى أن القول من الاثنين أوكد ، ومع ذلك فلم يصدق من حكم القدير بشقاوته{[38294]} ، كل ذلك حثاً على الرضا والتسليم ، ووكل الأمر إلى الرب الحكيم ، فمهما أمر به قبل ، وما أعرض عنه ترك السؤال فيه رجاء تدبيره بأحسن التدبير وتقديره ألطف المقادير ؛


[38283]:زيد من ظ.
[38284]:سقط من ظ.
[38285]:في ظ: الرسول.
[38286]:في ظ: البعيد.
[38287]:زيد من ظ.
[38288]:في ظ: عظمتنا.
[38289]:من ظ، وفي الأصل: بحراه ـ كذا.
[38290]:في ظ: لا تقرب.
[38291]:من ظ، وفي الأصل: شرف.
[38292]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[38293]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[38294]:في ظ: بشقاوة.