وإلى هنا يكون هود - عليه - السلام - قد رد على قومه رداً مقنعاً حكيما ، كان المتوقع من ورائه أن يستجيبوا له ، وأن يقبلوا على دعوته ، ولكنهم لسوء تفكيرهم وانطماس بصيرتهم ، أخذتهم العزة بالإثم فماذا قالوا لنبيهم ومرشدهم ؟
{ قالوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } أى : قالوا له على سبيل الإنكار والاستهزاء : أجئتنا يا هود لأجل أن نعبد الله وحده ، ونترك ما كان يعبد آباؤنا من الأوثان والأصنام إن هذا لن يكون منا أبداً فأتنا بما تعدنا به من العذاب إن كنت من الصادقين فيما تخبر به .
وننظر في هذا الرد من قوم هود فنراه طافحا بالتهور والتحدى والاستهزاء واستعجال العذاب .
حتى لكأن هودا - عليه السلام - يدعوهم إلى منكر لا يطيقون سماعه ولا يصبرون على الجدل فيه ! !
أليس هو يدعوهم إلى وحدانية الله وإفراده بالعبادة وترك ما كان يعبد آباؤهم ، وهذا في زعمهم أمر منكر لا يطيقون الصبر عليه .
وهكذا يستحوذ الشيطان على قلوب بعض الناس وتفكيرهم فيصور لهم الحسنات في صورة سيئات ، والسيئات في صورة حسنات .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى المجىء في قوله : { أَجِئْتَنَا } ، قلت فيه أوجه : أن يكون لهود - عليه السلام - مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث ، فلما أوحى إليه جاء قومه يدعوهم .
وأن يريدوا به الاستهزاء ، لأنهم كانوا يعتقدون أن الله - تعالى - لا يرسل إلا الملائكة ، فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجىء الملك . وأنهم لا يريدون حقيقة المجىء . ولكن التعريض بذلك والقصد كما يقال : ذهب يشتمنى ولا يراد حقيقة الذهاب ، كأنهم قالوا أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرضت لنا بتكليف ذلك " .
وقولهم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } يدل على أنه كان يتوعدهم بالعذاب من الله . إذا استمروا على شركهم ، ويدل - أيضا - على تصميمهم على الكفر ، واحتقارهم لأمر هود - عليه السلام - واستعجالهم إياه بالعقوبة على سبيل التحدى ، لأنهم كانوا يتوهمون أن العقوبة لن تقع عليهم أبداً .
يقول تعالى مخبرا عن تمردهم وطغيانهم وعنادهم وإنكارهم على هود ، عليه السلام : { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ [ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ] }{[11871]} كما قال الكفار من قريش : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ]
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره : أنهم كانوا يعبدون أصناما ، فصنم يقال له : صُدَاء ، وآخر يقال له : صمُود ، وآخر يقال له : الهباء{[11872]}
{ قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا } استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والإعراض عما أشرك به آباؤهم انهماكا في التقليد وحبا لما ألفوه ، ومعنى المجيء في { أجئتنا } أما المجيء من مكان اعتزل به عن قومه أو من السماء على التهكم ، أو القصد على المجاز كقولهم ذهب يسبني . { فائتنا بما تعدنا } من العذاب المدلول عليه بقوله { أفلا تتقون } . { إن كنت من الصادقين } فيه .
وقوله تعالى : { قالوا أجئتنا } الآية ، ظاهر قولهم وحده أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا العبادة لله مع إقرارهم بالإله الخالق المبدع ، ويحتمل أن يكونوا منكرين لله ويكون قولهم لنعبد الله وحده أي على قولك يا هود ، والتأويل الأول أظهر فيهم وفي عباد الأوثان كلهم ، ولا يجحد ربوبية الله تعالى من الكفرة إلا من أفرطت غباوته كإربد بن ربيعة ، وإلا من ادعاها لنفسه كفرعون ونمرود ، وقوله : { فاتنا } تصميم على التكذيب واحتقار لأمر النبوءة واستعجال للعقوبة ، وتمكن قولهم : { تعدنا } لما كان هذا الوعد مصرحاً به في الشر ولو كان ذكر الوعد مطلقاً لم يجىء إلا في خبر .
جاوبوا هوداً بما أنبأ عن ضياع حجّته في جنب ضلالة عقولهم ومكابرة نفوسهم ، ولذلك أعادوا تكذيبه بطريق الاستفهام الإنكاري على دعوته للتّوحيد ، وهذا الجواب أقلّ جفوة وغلِظة من جوابهم الأوّل ، إذ قالوا : { إنّا لنراك في سفاهة وإنّا لنظنّك من الكاذبين } [ الأعراف : 66 ] كأنّهم راموا استنزل نفس هود ومحاولة إرجاعه عمّا دعاهم إليه ، فلذلك اقتصروا على الإنكار وذكروه بأنّ الأمر الذي أنكرهُ هوَ دينُ آباء الجميع تعريضاً بأنّه سفّه آباءه ، وهذا المقصد هو الذي اقتضى التّعبير عن دينهم بطريق الموصولية في قولهم : { ما كان يعبد آباؤنا } إيماء إلى وجه الإنكار عليه وإلى أنه حقيق بمتابعة دين آبائه ، كما قال الملأُ من قريش لأبي طالب حين دعاه النّبيء صلى الله عليه وسلم أنْ يقول : " لا إله إلا الله " عند احتضاره فقالوا لأبي طالب : « أترغَبُ عن ملّة عبد المطّلب » .
واجتلاب ( كانَ ) لتدلّ على أن عبادتهم أمر قديم مَضت عليه العصور .
والتّعبير بالفعل وكونه مضارعاً في قوله : { يَعبد } ليدلّ على أنّ ذلك متكرّر من آبائهم ومتجدّد وأنّهم لا يَفتُرون عنه .
ومعنى { أجئتنا } أقصدتَ واهتممت بنا لنعبد الله وحده فاستعير فعل المجيء لمعنى الاهتمام والتّحفّز والتّصلّب ، كقول العرب : ذَهب يفعل ، وفي القرآن : { يأيها المدّثّر قُمْ فأنْذِر } [ المدثر : 1 ، 2 ] وقال حكاية عن فرعون : { ثمّ أدْبَر يَسْعَى فحشر فنادى } [ النازعات : 22 ، 23 ] وفرعون لم يفارق مجلس ملكه وإنّما أريد أنّه أعرض واهتمّ ومثله قولهم ذهب يفعل كذا قال النّبهاني :
فإن كنتَ سيّدَنّا سُدْتَنا *** وإن كُنْتَ لِلْخَال فاذْهب فَخلْ
فقصدوا ممّا دلّ عليه فعل المجيء زيادة الإنكار عليه وتسفيهَه على اهتمامه بأمر مثل ما دعاهم إليه .
و { وحده } حال من اسم الجلالة وهو اسم مصدر أوْحَده : إذا اعتقده واحداً ، فقياس المصدر الإيجاد ، وانتصب هذا المصدر على الحال : إمّا من اسم الجلالة بتأويل المصدر باسم المفعول عند الجمهور أي مُوحَّداً أي محكوماً له بالوحدانيه ، وقال يونس : هو بمعنى اسم الفاعل أي موحِّدين له فهو حال من الضّمير في { لنعبد } .
وتقدّم معنى : { ونذر } عند قوله تعالى : { وذر الذين اتّخذوا دينهم لعباً ولهواً } في سورة الأنعام ( 70 ) .
والفاء في قوله : فأتنا بما تعدنا } لتفريع طلب تحقيق ما توعدهم به ، وتحدّياً لهود ، وإشعاراً له بأنّهم موقنون بأنْ لا صِدْق للوعيد الذي يتوعّدهم فلا يخشون ما وعدهم به من العذاب . فالأمر في قولهم : { فأتنا } للتّعجيز .
والإتيان بالشّيء حقيقته أن يجيء مصاحباً إيَّاه ، ويستعمل مجازاً في الإحضار والإثبات كما هنا . والمعنى فعجل لنا ما تعدنا به من العذاب ، أو فحقّق لنا ما زعمتَ من وعيدنا . ونظيرُه الفعلُ المشتقّ من المجيء مثل { ما جئتنَا ببيّنة } [ هود : 53 ] { الآن جئتَ بالحقّ } [ البقرة : 71 ] .
وأسندوا الفعل إلى ضميره تعريضاً بأن ما توعدهم به هو شيء من مختلقاته وليس من قِبَل الله تعالى ، لأنّهم يزعمون أنّ الله لا يحبّ منهم الإقلاع عن عبادة آلهتهم ، لأنّه لا تتعلّق إرادته بطلب الضّلال في زعمهم .
والوعد الذي أرادوه وعْد بالشرّ ، وهو الوعيد ، ولم يتقدّم ما يفيد أنّه توعّدهم بسوء ، فيحتمل أن يكون وعيداً ضمنياً تضمّنه قوله : { أفلا تتّقون } [ الأعراف : 65 ] لأنّ إنكاره عليهم انتفاء الاتّقاء دليل على أنّ ثمّة ما يُحذر منه ، ولأجل ذلك لم يُعَيِّنوا وعيداً في كلامهم بل أبهموه بقولهم { بما تعدنا } ، ويحتمل أن يكون الوعيد تعريضاً من قوله : { إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ] المؤذن بأنّ الله استأصل قوم نوح وأخلفهم بعاد ، فيوشك أن يستأصل عادا ويخلفهم بغيرهم .
وعقّبوا كلامهم بالشّرط فقالوا : { إن كنتَ من الصّادقين } استقصاء لمقدرته قصداً منهم لإظهار عجزه عن الإتيان بالعذاب فلا يسعه إلاّ الاعتراف بأنّه كاذب ، وجواب الشّرط محذوف دلّ عليه ما قبله تقديره : أتيتَ به وإلاّ فلست بصادق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر} عبادة {ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا} من العذاب، {إن كنت من الصادقين} أن العذاب نازل بنا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت عاد لهود: أجئتنا تتوعدنا بالعقاب من الله على ما نحن عليه من الدين كي نعبد الله وحده وندين له بالطاعة خالصا ونهجر عبادة الآلهة والأصنام التي كان آباؤنا يعبدونها ونتبرأ منها؟ فلسنا فاعلي ذلك ولا متبعيك على ما تدعونا إليه، فأتنا بما تعدنا من العقاب والعذاب على تركنا إخلاص التوحيد لله، وعبادتنا ما نعبد من دونه من الأوثان إن كنت من أهل الصدق على ما تقول وتعد...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا يدل على أن رسالته التي يبلّغها إليهم في دعائه إياهم إلى عبادة الله وحده وتركهم عبادة من دونه حين قالوا: {أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا} ولا شك أنه إنما جاءهم ليعبدوا الله وحده، وجاءهم ليذروا ما كان يعبد آباؤهم. ثم في فعلهم تناقض؛ لأنهم كانوا ينكرون أن يكون من البشر... لم يرضوا برسالة البشر، ورضوا بإلهية الأحجار والخشب، ثم يقلّدون آباءهم في عبادتهم غير الله، وفي آبائهم من يعبد الله، لا يعبد غيره؛ وهم الذين مع نوح. فكيف لم يقلّدوا من نجا منهم، ولم يعبدوا غير الله دون أن يقلّدوا الذين عبدوا غير الله؟ فذلك تناقض حين اتبعوا [من] هلك منهم بتكذيبهم الرسل وعبادتهم غير الله، ولم يتّبعوا من نجا منهم. يذكر عز وجل سفههم وتناقضهم في القول في إنكارهم الرسول من البشر. ولكن ذكر سفههم وتناقضهم بالتعريض لا بالتصريح. وكذلك عامة ما ذكر في كتابه من سفههم إنما ذكره بالتعريض...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة، وترك دين الآباء. في اتخاذ الأصنام شركاء معه، حباً لما نشأوا عليه، وألفاً لما صادفوا آباءهم يتدينون به. فإن قلت: ما معنى المجيء في قوله: {أَجِئْتَنَا}...كأنهم قالوا: أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرّضت لنا بتكليف ذلك؟ {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} استعجال منهم للعذاب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {قالوا أجئتنا...} ظاهر قولهم وحده أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا العبادة لله مع إقرارهم بالإله الخالق المبدع، ويحتمل أن يكونوا منكرين لله ويكون قولهم لنعبد الله وحده أي على قولك يا هود، والتأويل الأول أظهر فيهم وفي عباد الأوثان كلهم، ولا يجحد ربوبية الله تعالى من الكفرة إلا من أفرطت غباوته كإربد بن ربيعة، وإلا من ادعاها لنفسه كفرعون ونمرود، وقوله: {فاتنا} تصميم على التكذيب واحتقار لأمر النبوءة واستعجال للعقوبة، وتمكن قولهم: {تعدنا} لما كان هذا الوعد مصرحاً به في الشر ولو كان ذكر الوعد مطلقاً لم يجئ إلا في خبر...
اعلم أن هودا عليه السلام دعا قومه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالدليل القاطع، وذلك لأنه بين أن نعم الله عليهم كثيرة عظيمة، وصريح العقل يدل على أنه ليس للأصنام شيء من النعم على الخلق لأنها جمادات، والجماد لا قدرة له على شيء أصلا، وظاهر أن العبادة نهاية التعظيم. ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام وذلك يدل على أنه يجب عليهم أن يعبدوا الله، وأن لا يعبدوا شيئا من الأصنام، ومقصود الله تعالى من ذكر أقسام إنعامه على العبيد، هذه الحجة التي ذكرها ثم إن هودا عليه السلام لما ذكر هذه الحجة اليقينية لم يكن من القوم جواب عن هذه الحجة التي ذكرها إلا التمسك بطريقة التقليد. فقالوا: {قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آبآؤنا} ثم قالوا: {فأتنا بما تعدنا} وذلك لأنه عليه السلام قال: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون} فقوله: {أفلا تتقون} مشعر بالتهديد والتخويف بالوعيد فلهذا المعنى قالوا: {فأتنا بما تعدنا} وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعتقدون كونه كاذبا بدليل أنهم قالوا له: {وإنا لنظنك من الكاذبين} فلما اعتقدوا كونه كاذبا قالوا له: {فأتنا بما تعدنا} والغرض أنه إذا لم يأتهم بذلك العذاب ظهر للقوم كونه كاذبا، وإنما قالوا ذلك لأنهم ظنوا أن الوعد لا يجوز أن يتأخر، فلا جرم استعجلوه على هذا الحد.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وهذا استفتاح منهم على أنفسهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
..ولكن الفطرة حين تنحرف لا تتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر.. وهكذا أخذت الملأ العزة بالإثم، واختصروا الجدل، واستعجلوا العذاب استعجال من يستثقل النصح، ويهزأ بالإنذار: (قالوا: أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).. لكأنما كان يدعوهم إلى أمر منكر لا يطيقون الاستماع إليه، ولا يصبرون على النظر فيه: (أجئتنا لنعبد الله وحده، ونذر ما كان يعبد آباؤنا؟)؛ إنه مشهد بائس لاستعباد الواقع المألوف للقلوب والعقول. هذا الاستعباد الذي يسلب الإنسان خصائص الإنسان الأصيلة: حرية التدبر والنظر، وحرية التفكير والاعتقاد. ويدعه عبداً للعادة والتقليد، وعبداً للعرف والمألوف، وعبداً لما تفرضه عليه أهواؤه وأهواء العبيد من أمثاله، ويغلق عليه كل باب للمعرفة وكل نافذة للنور.. وهكذا استعجل القوم العذاب فراراً من مواجهة الحق، بل فراراً من تدبر تفاهة الباطل الذي هم له عبيد؛ وقالوا لنبيهم الناصح الأمين: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
..جاوبوا هوداً بما أنبأ عن ضياع حجّته في جنب ضلالة عقولهم ومكابرة نفوسهم، ولذلك أعادوا تكذيبه بطريق الاستفهام الإنكاري على دعوته للتّوحيد، وهذا الجواب أقلّ جفوة وغلِظة من جوابهم الأوّل، إذ قالوا: {إنّا لنراك في سفاهة وإنّا لنظنّك من الكاذبين} [الأعراف: 66] كأنّهم راموا استنزل نفس هود ومحاولة إرجاعه عمّا دعاهم إليه، فلذلك اقتصروا على الإنكار وذكروه بأنّ الأمر الذي أنكرهُ هوَ دينُ آباء الجميع تعريضاً بأنّه سفّه آباءه، وهذا المقصد هو الذي اقتضى التّعبير عن دينهم بطريق الموصولية في قولهم: {ما كان يعبد آباؤنا} إيماء إلى وجه الإنكار عليه وإلى أنه حقيق بمتابعة دين آبائه، كما قال الملأُ من قريش لأبي طالب حين دعاه النّبيء صلى الله عليه وسلم أنْ يقول:"لا إله إلا الله" عند احتضاره فقالوا لأبي طالب: « أترغَبُ عن ملّة عبد المطّلب». واجتلاب (كانَ) لتدلّ على أن عبادتهم أمر قديم مَضت عليه العصور. والتّعبير بالفعل وكونه مضارعاً في قوله: {يَعبد} ليدلّ على أنّ ذلك متكرّر من آبائهم ومتجدّد وأنّهم لا يَفتُرون عنه... ومعنى {أجئتنا} أقصدتَ واهتممت بنا لنعبد الله وحده فاستعير فعل المجيء لمعنى الاهتمام والتّحفّز والتّصلّب، كقول العرب: ذَهب يفعل، وفي القرآن: {يأيها المدّثّر قُمْ فأنْذِر} [المدثر: 1، 2] وقال حكاية عن فرعون: {ثمّ أدْبَر يَسْعَى فحشر فنادى} [النازعات: 22، 23] وفرعون لم يفارق مجلس ملكه وإنّما أريد أنّه أعرض واهتمّ... فقصدوا ممّا دلّ عليه فعل المجيء زيادة الإنكار عليه وتسفيهَه على اهتمامه بأمر مثل ما دعاهم إليه...
والإتيان بالشّيء حقيقته أن يجيء مصاحباً إيَّاه، ويستعمل مجازاً في الإحضار والإثبات كما هنا. والمعنى فعجل لنا ما تعدنا به من العذاب... وأسندوا الفعل إلى ضميره تعريضاً بأن ما توعدهم به هو شيء من مختلقاته وليس من قِبَل الله تعالى، لأنّهم يزعمون أنّ الله لا يحبّ منهم الإقلاع عن عبادة آلهتهم، لأنّه لا تتعلّق إرادته بطلب الضّلال في زعمهم...
والوعد الذي أرادوه وعْد بالشرّ، وهو الوعيد، ولم يتقدّم ما يفيد أنّه توعّدهم بسوء، فيحتمل أن يكون وعيداً ضمنياً تضمّنه قوله: {أفلا تتّقون} [الأعراف: 65] لأنّ إنكاره عليهم انتفاء الاتّقاء دليل على أنّ ثمّة ما يُحذر منه، ولأجل ذلك لم يُعَيِّنوا وعيداً في كلامهم بل أبهموه بقولهم {بما تعدنا}، ويحتمل أن يكون الوعيد تعريضاً من قوله: {إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} [الأعراف: 69] المؤذن بأنّ الله استأصل قوم نوح وأخلفهم بعاد، فيوشك أن يستأصل عادا ويخلفهم بغيرهم...
وعقّبوا كلامهم بالشّرط فقالوا: {إن كنتَ من الصّادقين} استقصاء لمقدرته قصداً منهم لإظهار عجزه عن الإتيان بالعذاب فلا يسعه إلاّ الاعتراف بأنّه كاذب، وجواب الشّرط محذوف دلّ عليه ما قبله تقديره: أتيتَ به وإلاّ فلست بصادق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا}؟ ما معنى هذه الدعوة التي جئتنا بها؟! إن معناها أن نتنكر لقدسيّة تاريخ الاباء، في ما يعتقدون ويمارسون من طقوس وعادات... وتلك قضية تهدّم البناء الاجتماعي للعشيرة القائم على أساس حرمة التاريخ. فلا بدّ من عبادة هذه الأصنام لتقرِّبنا إلى الله زلفى، ولتجعل من حياتنا امتداداً لحياة الأجداد، وهذا ما يجعل المسألة لا تحتاج إلى بحثٍ أو مناقشة أو تعديل... فإذا كنت مصرّاً على دعوتك الهدامة {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فلن نتبعك في شيء مما تقوله أو تدعو إليه، فليس بيننا وبينك إلا المواجهة في ساحة الصراع...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولكن في مقابل جميع المواعظ والإرشادات المنطقية، والتذكير بنعم الله ومواهبه، انبرت تلك الثلة من الناس الذين كانوا يرون مكاسبهم المادية في خطر، وقبول دعوة النّبي تصدّهم عن التمادي في أهوائهم وشهواتهم، انبرت إلى المعارضة، وقالوا بصراحة،: إنّك جئت تدعونا إلى عبادة الله وحده وترك ما كان أسلافنا يعبدون دهراً طويلا، كلاّ، لا يمكن هذا بحال (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبُدُ آباؤنا)؟
لقد كان مستوى تفكير هذه الثّلة منحطاً جدّاً كما تلاحظ إلى درجة أنّهم كانوا يستوحشون من عبادة الله وحده، بينما يعتبرون تعدّد الآلهة والمعبودات مفخرةً من مفاخرهم.
والجدير بالتأمل أنّ دليلهم في هذا المجال لم يكن إلاّ التقليد الأعمى لما كان عليه الآباء والأسلاف، وإلاّ فكيف يمكن أن يبرروا خضوعهم لقطعات من الصخور والأخشاب؟!
وفي النهاية، ولأجل أن يقطعوا أمل هود فيهم تماماً، ويقولوا كلمتهم الأخيرة قالوا: إذا كان حقاً وواقعاً ما تنذرنا به من العذاب، فلتبادر به، أي أنّنا لا نخشى تهديداتك أبداً (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)..