ثم أثنى - سبحانه - على القرآن الكريم الذي أنزله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : { هذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
والبصائر : جمع بصيرة - وهي للقلب بمنزلة البصر للعين . فهي النور الذي يبصر به القلب هدايته ، كما أن البصر هو النور الذي تبصر به العين طريقها .
وقوله : { هذا } مبتدأ ، وبصائر خبره ، وجمع الخبر باعتبار ما في القرآن من تعدد الآيات والبراهين .
أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك - أيها الرسول - الكريم - { بَصَائِرُ لِلنَّاسِ } لأن ما فيه من حجج وبراهين ، تكشف للقلب طريق الحق ، كما تكشف العين للإِنسان مساره وهو - أيضا - { هُدًى } أي : هداية عظيمة إلى الرشاد والسعادة { وَرَحْمَةٌ } واسعة { لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : لقوم من شأنهم الإِيقان من عند الله - تعالى - ، وبأنك - أيها الرسول الكريم - صادق فيما تبلغه عن ربك .
وخص الموقنين بالذكر ، لأنهم هم الذين ينتفعون بحجج القرآن الكريم ، وبهداياته ، أما الذين في قلوبهم مرض أو شك ، فإنهم لا ينتفعون بذلك .
قال - تعالى - : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . . وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } وقال - سبحانه - : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }
وقوله تعالى : { هذا بصائر } يريد القرآن . والبصائر جمع بصيرة ، وهي المعتقد الوثيق في الشيء ، كأنه مصدر من إبصار القلب ، فالقرآن فيه بيانات ينبغي أن تكون بصائر . والبصيرة في كلام العرب : الطريقة من الدم ، ومنه قول الشاعر يصف جده في طلق الثأر وتواني غيره : [ الكامل ]
راحوا بصائرهم على أكتافهم . . . وبصيرتي يعدو بها عتد وأي{[10270]}
وفسر الناس هذا البيت بطريقة الدم ، إذ كانت عادة طالب الدم عندهم أن يجعل طريقة من دم خلف ظهره ليعلم بذلك أنه لم يدرك ثأره وأنه يطلبه ، ويظهر فيه أنه يريد بصيرة القلب ، أي قد اطرح هؤلاء بصائرهم وراء ظهورهم{[10271]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{هذا} القرآن {بصائر للناس}: هذا القرآن بصيرة للناس من الضلالة.
{لقوم يوقنون} بالقرآن أنه من الله تعالى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره هَذَا الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد بَصَائِرُ لِلنّاسِ يُبْصِرون به الحقّ من الباطل، ويعرفون به سبيل الرشاد، والبصائر: جمع بصيرة...
وَهُدًى: ورشاد وَرَحْمَة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بحقيقة صحة هذا القرآن، وأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم، وخصّ جلّ ثناؤه الموقنين بأنه لهم بصائر وهدى ورحمة؛ لأنهم الذين انتفعوا به دون من كذب به من أهل الكفر، فكان عليه عمىً وله حزنا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{هذا} القرآن {بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب. كما جعل روحاً وحياة وهو هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{هذا بصائر} يريد القرآن. والبصائر جمع بصيرة، وهي المعتقد الوثيق في الشيء، كأنه مصدر من إبصار القلب، فالقرآن فيه بيانات ينبغي أن تكون بصائر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أوصل سبحانه إلى هذا الحد من البيان، الفائت لقوى الإنسان، قال مترجماً عنه: {هذا} أي الوحي المنزل.
ولما كان في عظم بيانه وإزالة اللبس عن كل ملبس دق أو جل بحيث لا يلحقه شيء من خفاء، جعله نفس البصيرة، مجموعة جمع كثرة بصيغة منتهى الجموع كما جعله روحاً فقال: {بصائر للناس} أي الذين هم في أدنى المراتب، يبصرهم بما يضرهم وما ينفعهم، فما ظنك بمن فوقهم من الذين آمنوا ثم الذين يؤمنون ومن فوقهم.
ولما بين ما هو لأهل السفول، بين ما هو لأهل العلو فقال تعالى: {وهدى} أي قائد إلى كل خير، مانع من كل زيغ.
{لقوم يوقنون} أي ناس فيهم قوة القيام بالوصول إلى العلم الثابت وتجديد الترقي في درجاته إلى ما لا نهاية له أبداً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وصف القرآن بأنه بصائر للناس يعمق معنى الهداية فيه والإنارة، فهو بذاته بصائر كاشفة كما أن البصائر تكشف لأصحابها عن الأمور. وهو بذاته هدى. وهو بذاته رحمة.. ولكن هذا كله يتوقف على اليقين. يتوقف على الثقة التي لا يخامرها شك ولا يخالطها قلق، ولا تتسرب إليها ريبة. وحين يستيقن القلب ويستوثق يعرف طريقه، فلا يتلجلج ولا يتلعثم ولا يحيد. وعندئذ يبدو له الطريق واضحاً، والأفق منيراً، والغاية محددة، والنهج مستقيماً. وعندئذ يصبح هذا القرآن له نوراً وهدى ورحمة بهذا اليقين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وصف الآيات السابقة أو القرآن بالبصائر مجاز عقلي؛ لأن ذلك سبب البصائر. وجمع البصائر: إن كانت الإشارة إلى القرآن باعتبار المتبصرين بسببه كما اقتضاه قوله: {للناس}؛ لأن لكل أحد بصيرته الخاصة، فهي أمر جزئي بالتبع لكَون صاحبِ كل بصيرة جزئياً مشخصاً فناسب أن تُورد جمعاً، فالبصيرة: الحاسَّة من الحواس الباطنة، وهذا بخلاف إفراد {هدى ورحمة}؛ لأن الهدى والرحمة معنيان كليان يصلحان للعدد الكثير قال تعالى: {هدى للناس} [آل عمران: 4] وقال: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} [الأنبياء: 107].
وإنما كان هدى لأنه طريق نفع لمن اتبع إرشاده، فاتباعه كالاهتداء للطريق الموصلة إلى المقصود.
وإنّما كان رحمة لأن في اتباع هديه نجاح الناس أفراداً وجَماعاتٍ في الدنيا؛ لأنه نظام مجتمعهم ومناط أمنهم، وفي الآخرة لأنه سبب نوالهم درجات النعيم الأبدي. وكان بصائر لأنه يبين للناس الخير والشر ويحَرضهم على الخير ويحذرهم من الشر ويعدهم على فعل الخير ويوعدهم على فعل الشرور فعمله عمل البصيرة. وجُعل البصائر للناس؛ لأنه بيان للناس عامة وجعل الهدى والرحمة لقوم يوقنون؛ لأنه لا يهتدي ببيانه إلا الموقن بحقيقته ولا يرحم به إلا من اتبعه المؤمن بحقيته.
وذكر لفظ (قوم) للإيماء إلى أن الإيقان متمكن من نفوسهم كأنه من مقومات قوميتهم التي تميزهم عن أقوام آخرين.
والإيقان: العلم الذي لا يتردد فيه صاحبه، وحذف متعلقه؛ لأنه معلوم بما جاءت به آيات الله...
كلمة {بَصَائِرُ..} جمع بصيرة، وهي ما يُوجد في وجدان الإنسان من نور الحق، فالبصر يرى الماديات، والبصيرة ترى المعنويات والقيم وتميزها.
إذن: محلها القلب، فهي نور يقذفه الله تعالى في قلب عبده، نقول: فلان عنده بصيرة، يعني: نظر ثاقب للأمور، ويمكنه أنْ يتنبأ بالشيء فيأتي وفْقَ تنبؤه.
والهدى أو الهداية أنْ تصلَ إلى الحق من أقرب طريق وأيسره عليك، فليس في الهدى مشقَّة، لذلك وصف اللهُ المؤمنين بقوله: {أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ..} [البقرة: 5] فهم على الهدى كأنه دابةٌ تحملهم إلى غايتهم، وإلى مراد الحق منهم.
{وَرَحْمَةٌ..} هذه كلها أوصاف للقرآن الكريم، فهو بصائر للناس وهو هدى وهو رحمة، وفي آية أخرى قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ..} [الإسراء: 82].
وقلنا: هناك فَرْق بين الشفاء والرحمة، فالشفاء يعني وجودَ داءٍ يعالجه القرآن أو اعوجاج يُقوِّمه القرآن ويُصحِّح مساره، فالقرآن يجبر ما فينا من نقص، ومن تقصير، ومن غفلة، ومن انحراف ويُعدل مسارنا إلى الطريق الصحيح وإلى الحركة البناءة.
مثل التلميذ حين ينصرف عن دروسه، فإنه يرسب ويفشل فإنْ عاد إلى الصواب وذاكر ينجح كذلك، فنحن إنْ غفلنا عن كتاب ربنا وعن منهجه أصابتنا الأمراض فإنْ عُدْنا إليه شفانا. أما الرحمة فتعني ألاَّ يأتي الداءُ أصلاً.
وقوله سبحانه: {هَـٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي: أن هذا الأثر للقرآن لا يكون إلا للموقنين المؤمنين به وبصدقه، وأنه هو المنهج الحق الذي يحوي النور والهداية والشفاء والرحمة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الجميل في الأمر أنّ الآية تذكر أنّ البصائر لعامة الناس، أمّا الهدى والرحمة فخصت الموقنين بهما، ويجب أن يكون الأمر كذلك، لأنّ آيات القرآن ليست مقصورة على قوم بالخصوص، بل يشترك فيها كلّ البشر الذين دخلوا في كلمة
(الناس) في كلّ زمان ومكان، غير أنّ من الطبيعي أن يكون الهدى فرع اليقين، وأن تكون الرحمة وليدته، فلا تشمل الجميع حينئذ. وعلى أية حال، فإنّ ما تقوله الآية من أنّ القرآن عين البصيرة، وعين الهداية والرحمة، تعبير جميل يعبر عن عظمة هذا الكتاب السماوي وتأثيره وعمقه بالنسبة لأُولئك السالكين طريقه، والباحثين عن الحقيقة.