ثم بين - عز وجل - أن هؤلاء الكافرين قد استحوذت عليهم الشياطين فزادتهم كفرا على كفرهم ، فقال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } .
والاستفهام للتقرير والتأكد و { تَؤُزُّهُمْ } تحركهم تحريكا قويا . وتهزهم هزا شديداً ، وتحرضهم على ارتكاب المعاصى والموبقات حتى يقعوا فيها .
يقال : أز فلان الشىء يئزه ويؤزه . . . بكسر الهمزة وضمها أزا ، إذا حركه بشدة ، وأز فلان فلانا ، إذا أغراه وهيجه وحثه على فعل شىء معين ، وأصله من أزت القدر تؤز أزيزا ، إذا اشتد غليان الماء فيها .
والمعنى : لقد علمت أنت وأتباعك أيها الرسول الكريم ، أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين ، وسلطناهم عليهم ، وقيضناهم لهم ، لكى يحضوهم على ارتكاب السيئات ، ويحركوهم تحريكا شديداً نحو الموبقات حتى يقترفوها وينغمسوا فيها . . .
وما دام الأمر كذلك . فذرهم فى طغيانهم يعمهون ، ولا تتعجل وقوع العذاب بهم . فإن الله - تعالى - قد حدد - بمقتضى حكمته - وقتا عينا لنزول العذاب بهم .
وقوله : { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } يعنى الأيام والليالى والشهور والسنين إلى انتهاء أجل العذاب . . . وقال الضحاك : نعد أنفسهم وقال قطرب : نعد أعمالهم عدا .
روى أن المأمون قرأ هذه السورة فمر بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء فأشار برأسه إلى ابن السماك أن يعظه ، فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ، ولم يكن له مدد ، فما أسرع ما تنفد ، وقيل فى هذا المعنى :
حياتك أنفاس تعد فكلما . . . مضى نفس منك انتقصت به جزءا
يميتك ما يحييك فى كل ليلة . . . ويحدوك حاد ما يريد به الهزءا
وكان ابن عباس - رضى الله عنهما - إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : آخر العدد : خروج نفسك . آخر العدد : فراق أهلك آخر العدد : دخول قبرك .
وقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : تغويهم إغواء .
وقال العوفي عنه : تحرضهم على محمد وأصحابه .
وقال مجاهد : تُشليهم إشلاء{[19127]} .
وقال قتادة : تزعجهم إزعاجا إلى معاصي الله .
وقال سفيان الثوري : تغريهم إغراء وتستعجلهم استعجالا .
وقال عبد الرحمن بن زيد : هذا كقوله تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] .
القول في تأويل قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ أَنّآ أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزّهُمْ أَزّاً * فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنّمَا نَعُدّ لَهُمْ عَدّاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تر يا محمد أنا أرسلنا الشياطين على أهل الكفر بالله تَوزّهُمْ يقول : تحرّكهم بالإغواء والإضلال ، فتزعجهم إلى معاصي الله ، وتغريهم بها حتى يواقعوها أزّا إزعاجا وإغواء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أزّا يقول : تغريهم إغراء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : تؤز الكافرين إغراء في الشرك : امضِ امضِ في هذا الأمر ، حتى توقعهم في النار ، امضوا في الغيّ امضوا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو إدريس ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله تَوزّهُمْ أزّا قال : تغريهم إغراء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : تَوزّهُمْ أزّا قال : تزعجهم إزعاجا في معصية الله .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن عثمة ، قال : حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة في قول الله تَوزّهُمْ أزّا قال : تزعجهم إلى معاصي الله إزعاجا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله تَوزّهُمْ أزّا قال تزعجهم إزعاجا في معاصي الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ألَمْ تَرَ أنّا أرْسَلْنا الشّياطِينَ على الكافرِينَ تَوزّهُمْ أزّا فقرأ : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطانا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ قال : توزّهم أزّا ، قال : تشليهم إشلاءً على معاصي الله تبارك وتعالى ، وتغريهم عليها ، كما يغري الإنسان الاَخر على الشيء .
يقال منه : أزَزْت فلانا بكذا ، إذا أغريته به أؤزّه أزّا وأزيزا ، وسمعت أزيز القدر : وهو صوت غليانها على النار ومنه حديث مطرف عن أبيه ، أنه انتهى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تر يا محمد أنا أرسلنا الشياطين على أهل الكفر بالله "تَؤزّهُمْ "يقول: تحرّكهم بالإغواء والإضلال، فتزعجهم إلى معاصي الله، وتغريهم بها حتى يواقعوها
"أزّا": إزعاجا وإغواء... يقال منه: أزَزْت فلانا بكذا، إذا أغريته به أؤزّه أزّا وأزيزا، وسمعت أزيز القدر: وهو صوت غليانها على النار...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: {أرسلنا} أي سلطنا عليهم كقوله: {إنما سلطانه على الذين يتولونه} [النحل: 100]. وقال بعضهم: {أرسلنا الشياطين} أي قَيَّضْنَاهُم لهم كقوله: {ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين} [الزخرف: 36] فهما في الحقيقة واحد؛ لأنه إذا أرسلهم اتصلوا بهم وإذا اتصلوا بهم قيضوا، وقرنوا بعضهم ببعض. وقال الحسن وأبو بكر الأصم وغيرهما: {أرسلنا الشياطين على الكافرين} أي خلينا بينهم وبينهم، ولم نمنعهم منهم مما ذكر. لكن لو كان تأويل الإرسال التخلية، وتأويل التقييض كذلك لم يكن لتخصيص الكفار بذلك معنى إذ قد كان ذلك القدر من التخلية بينهم وبين المسلمين، إن كان تأويل التخلية أنه لم يمنعهم منهم وأنه خلى بينهم. فدل أن تخصيص الكفار بهذا وأمثاله ليس هو التخلية بل غيرها و أن تخصيص هؤلاء بهذا وأمثاله من قوله: {بل طبع الله عليها بكفرهم} [النساء: 155] [وقوله] {وجعلنا على قلوبهم أكنة} [الأنعام: 25،...] ونحوه، وأن هنالك من الله معنى في الكفار، ليس ذلك في المؤمنين، وفي المؤمنين معنى ليس في الكافرين. وهو، والله أعلم: إذا علم في المؤمنين الرغبة والإجابة وفقهم على ذلك، وهداهم. وإذا علم من الكفار خلاف ذلك وضده خذلهم، وأضلهم. فذلك تخصيصه إياهم بما ذكر، والله أعلم. وقوله تعالى: {تؤزهم أزا} قال بعضهم: تزعجهم إزعاجا. وقال بعضهم: تشلهم شلا، وتغريهم إغراء. وقال الحسن: تحركهم تحريكا. وقال بعضهم: تقدمهم إقداما إلى الشر. وقال بعضهم: تأمرهم أمرا. وقال بعضهم: توقعهم إيقاعا، ونحوه، وكله واحد...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الأز والهزّ والاستفزاز: أخوات، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج، أي: تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات. والمعنى: خلينا بينهم وبينهم ولم نمنعهم، ولو شاء لمنعهم قسراً. والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار، وأقاويلهم وملاحتهم ومعاندتهم للرسل واستهزاؤهم بالدين: من تماديهم في الغيِّ وإفراطهم في العناد، وتصميمهم على الكفر، واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشكّ عنه، وانهماكهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسوِّل لهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين...}، الرؤية في الآية رؤية القلب، و {أرسلنا} معناه سلطنا أو لم نحل بينهم وبينهم فكله تسليط وهو مثل قوله نقيض له شيطان وتعديته ب {على} دال على أنه تسليط...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من المستبعد عندهم جواز رجوعهم عنهم فضلاً عن كفرهم بهم، دل على وقوعه بما يشاهد منهم من الأفعال المنافية لرزانة الحلم الناشئة عن وقار العلم، فقال: {ألم تر أنا} بما لنا من العظمة {أرسلنا الشياطين} الذين خلقناهم من النار، إرسالاً مستعلياً بالإبعاد والإحراق {على الكافرين} أي العريقين في الكفر {تؤزهم أزاً} أي تحركهم تحريكاً شديداً، وتزعجهم في المعاصي والدنايا التي لا يشكون في قباحتها وعظيم شناعتها وهم أشد الناس عيباً لفاعليها وذماً لمرتكبيها إزعاجاً عظيماً بحيث يكونون في تقلبهم ذلك مثل الماء الذي يغلي في القدر، ومثل الشرر المتطاير الذي هو أشد شيء منافاة لطبع الطين وملاءمة لطبع النار، فلما ثبت بذلك المدعى، تسبب عنه النهي عما اتصفوا به من خفة السفه وطيش الجهل فقال: {فلا تعجل عليهم} بشيء مما تريد به الراحة منهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف بياني لجواب سؤال يجيش في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم من إيغال الكافرين في الضلال جماعتهم وآحادهم، وما جرّه إليهم من سوء المصير ابتداء من قوله تعالى: {ويقول الإنسان أإذا ما مِتّ لسوف أخرج حياً} [مريم: 66]، وما تخلل ذلك من ذكر إمهال الله إياهم في الدنيا، وما أعد لهم من العذاب في الآخرة. وهي معترضة بين جملة {واتخذوا من دون الله آلهة} [مريم: 81] وجملة {يوم نحشر المتقين} [مريم: 85]. وأيضاً هي كالتذييل لتلك الآيات والتقرير لمضمونها لأنها تَستخلص أحوالهم، وتتضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن إمهالهم وعدم تعجيل عقابهم.
والاستفهام في {ألم تر} تعجيبي، ومثله شائع في كلام العرب يجعلون الاستفهام على نفي فعل. والمراد حصول ضده بحثّ المخاطب على الاهتمام بتحصيله، أي كيف لم تر ذلك، ونزّل إرسال الشياطين على الكافرين لاتضاح آثاره منزلة الشيء المرئي المشاهد، فوقع التعجيب من مَرآه بقوله: ألم تر ذلك.
والأزُّ: الهزّ والاستفزاز الباطني، مأخوذ من أزيز القدر إذا اشتد غليانها. شبه اضطراب اعتقادهم وتناقض أقوالهم واختلاق أكاذيبهم بالغليان في صعود وانخفاض وفرقعة وسكون، فهو استعارة فتأكيده بالمصدر ترشيح.
وإرسال الشياطين عليهم تسخيرهم لها وعدم انتفاعهم بالإرشاد النبّوي المنقذ من حبائلها، وذلك لكفرهم وإعراضهم عن استماع مواعظ الوحي. وللإشارة إلى هذا المعنى عُدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله {على الكافرين}. وجعل {تؤزهم} حالاً مقيّداً للإرسال لأنّ الشياطين مرسلة على جميع الناس ولكن الله يحفظ المؤمنين من كيد الشياطين على حسب قوّة الإيمان وصلاح العمل، قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42].