فجملة { إنما هذه الحياة الدُّنيا متاع } مبينة لجملة { أهْدِكُم سَبِيلَ الرَّشَادِ } . والمتاع : ما ينتفع به انتفاعاً مؤجلاً . والقرار : الدوام في المكان . والقصر المستفاد من قوله { إنما هذه الحياة الدنيا متاع } قصرُ موصوففٍ على صفة ، أي لا صفة للدنيا إلا أنها نفع موقت ، وهو قصر قلب لتنزيل قومه في تهالكهم على منافع الدنيا منزلة من يحسبها منافع خالدة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع} قليل {وإن الآخرة هي دار القرار} آية: تمتعون في الدنيا قليلا، ثم استقرت الدار الآخرة بأهل الجنة وأهل النار، يعني بالقرار لا زوال عنها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول:"إنّمَا هَذِهِ الحيَاةُ الدّنْيا مَتاعٌ" يقول لقومه: ما هذه الحياة الدنيا العاجلة التي عجلت لكم في هذه الدار إلا متاع تستمعون بها إلى أجل أنتم بالغوه، ثم تموتون وتزول عنكم. "وَإنّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرارِ "يقول: وإن الدار الآخرة، وهي دار القرار التي تستقرّون فيها فلا تموتون ولا تزول عنكم، يقول: فلها فاعملوا، وإياها فاطلبوا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
افتتح بذم الدنيا وتصغير شأنها؛ لأنّ الإخلاد إليها هو أصل الشرّ كله، ومنه يتشعب جميع ما يؤدي إلى سخط الله ويجلب الشقاوة في العاقبة. وثنى بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها، وأنها هي الوطن والمستقرّ...
حاصل الكلام أن الآخرة باقية دائمة والدنيا منقضية منقرضة، والدائم خير من المنقضي، وقال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهبا فانيا، والآخرة خزفا باقيا، لكانت الآخرة خيرا من الدنيا، فكيف والدنيا خزف فان، والآخرة ذهب باق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا قوم} كرر ذلك زيادة في استعطافهم بكونهم أهله فهو غير متهم في نصحهم؛ لأنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه. ولما كانت الأنفس لكونها مطبوعة على الوهم لا تعد الحاصل إلا الحاضر أكد فقال: {إنما هذه الحياة} وحقرها بقوله: {الدنيا} إشارة إلى دناءتها وبقوله: {متاع} إشارة إلى أنها جيفة؛ لأنها في اللغة من جملة مدلولات المتاع، فلا يتناول منها إلا كما يتناول المضطر من الجيفة؛ لأنها دار القلعة والزوال والتزود والارتحال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {إنما هذه الحياة الدُّنيا متاع} مبينة لجملة {أهْدِكُم سَبِيلَ الرَّشَادِ}، والمتاع: ما ينتفع به انتفاعاً مؤجلاً. والقرار: الدوام في المكان.
والقصر المستفاد من قوله {إنما هذه الحياة الدنيا متاع} قصرُ موصوفٍ على صفة، أي لا صفة للدنيا إلا أنها نفع موقت، وهو قصر قلب لتنزيل قومه في تهالكهم على منافع الدنيا منزلة من يحسبها منافع خالدة.
{يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَـرَارِ} هذه تلفتنا إلى أن الإنسان في أحداث الحياة معه لابُدَّ له أن يخدم غاية، ويُشترط في الغاية التي تخدم ألاَّ يكون بعدها غاية أخرى، فإنْ كان بعدها غايةٌ أخرى فليستْ بغاية، بل هي مرحلة مُوصِّلة للغاية، مثل الولد تعلمه ليأخذ الإعدادية مثلاً، فهل الإعدادية غاية؟ لا إنما هي مرحلة مُوصِّلة إلى مرحلة أخرى هي الثانوية، كذلك الثانوية مرحلة مُوصِّلة إلى ما بعدها. فالشيء ما دام له بَعْد فليس بغاية، الغاية هي التي ليس لها بَعْد، لذلك يقول لهم الرجل المؤمن: إن الدنيا كلها بما فيها متاع مجرد متاع ليست غاية، إنما الغاية الحقيقية هي الآخرة.
والنظرة المتأملة ترى أن الإنسان له عمر مظنون في الكون غير مُحدَّد أبهمه الله، وجاء هذا الإبهام عين البيان وأرفع درجاته، لأنه سبحانه حين أبهمه في الزمان وفي المكان جعلنا نتوقعه وننتظره في كل لحظة وفي أيِّ مكان، لذلك قالوا: الموت سهمٌ أُرسِل إليك وهو في الطريق إليك بالفعل وعمرك بقدر سفره إليك.
وحين تتأمل الكون من حولك تجد الخالق سبحانه خلق لك كوناً منسجماً يخدمك، شمس وقمر ونجوم وهواء وماء ونبات.. إلخ فانظر يا مَنْ خُلِقت له هذه الأكوان كيف تفنى أنت وتبقى هي، تموت أنت والشمس كما هي والقمر والنجوم والهواء والماء، لم يتغير في كون الله شيء، حتى الماء الذي نظنه ينقص هو في الكون كما هو منذ خلقه الله لا يزيد ولا ينقص.
فالماء الذي أخذته من الكون في حياتك خرج منك مرة أخرى في صورة عرق وفضلات، حتى النسبة التي تبقى فينا بعد الموت تخرج وتمتصّها الأرض، كذلك الماء في الوردة مثلاً وفي كل الكائنات، إذن: فالكون كله كذلك عبارة عن تغيُّرات في مُتحد.
لكن أيُعقل أن يكون الخادمُ أطولَ عمراً من المخدوم، أموت وتبقى الشمس التي تخدمني والتي خُلِقت من أجلي؟ نعم لتعلم أنَّ خادمك أطول عمراً منك في الدنيا مع أَنك المكرَّم المخدوم، إذن: لا بدَّ أن لي عمراً آخر يناسب هذا التكريم، عمراً يبقى بعد فناء هذه المخلوقات حيث تنتهي الشمس والقمر والنجوم.. وأبقى أنا، وهذا لا يكون إلا في الآخرة {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48].
ولا بدَّ للمؤمن أن يقول بهذا اليوم، وأنْ يؤمن به ليكون هو المكرّم حقاً وهو الأطول عمراً. حتى الموت نفسه يموت وتبقى أنت في الآخرة خالداً لا تفوتك النعمة ولا يدركك الموت.
لذلك يريد منا الحق سبحانه أن ننظر إلى هذه الغاية، لا أن ننظر تحت أقدامنا، ونعيش فقط للحظة التي نحن فيها، فالغاية الحقيقية لكل مؤمن هي الآخرة لأنها ليس لها بَعْد {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] والحيوان مبالغة من الحياة. أي: الحياة الحقيقية.
وهنا يقول الرجل المؤمن: {يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَـرَارِ} [غافر: 39] أي: المستقر التي لا عدولَ عنها، ولا سُكْنى غيرها، ولا بُدَّ أن نعمل لها.