نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ} (39)

ولما كان هذا دعاء على سبيل الإجمال ، وكان الداء كله في الإقبال على الفاني ، والدواء كله في الإقدام على الباقي ، قال استئنافاً في جواب من سأل عن تفصيل هذه السبيل مبيناً أنها العدول عما يفنى إلى ما يبقى محقراً للدنيا مصغراً لشأنها لأن الإخلاد إليها أصل الشر كله ، ومنه يتشعب ما يؤدي إلى سخط الله { يا قوم } كرر ذلك زيادة في استعطافهم بكونهم أهله فهو غير متهم في نصحهم لأنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه . ولما كانت الأنفس لكونها مطبوعة على الوهم لا تعد الحاصل إلا الحاضر أكد فقال : { إنما هذه الحياة } وحقرها بقوله : { الدنيا } إشارة إلى دناءتها وبقوله : { متاع } إشارة إلى أنها جيفة لأنها في اللغة من جملة مدلولات المتاع ، فلا يتناول منها إلا كما يتناول المضطر من الجيفة لأنها دار القلعة والزوال والتزود والارتحال .

ولما افتتح بذم الدنيا ، ثنى بمدح الآخرة فقال : { وإن الآخرة } لكونها المقصودة بالذات { هي دار القرار * } التي لا تحول منها أصلاً دائم كل شيء من ثوابها وعقابها ، فهي للتلذذ والانتفاع ، والترفه والاتساع ، لمن توسل إلى ذلك بحسن الاتباع ، أو للشقاوة والهلاك ، لمن اجترأ على المحارم واستخف الانتهاك قال الأصفهاني : قال بعض العارفين : لو كانت الدنيا ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً ، لكانت الآخرة خيراً من الدنيا فكيف والدنيا خزف فان ، والآخرة ذهب باق بل أشرف وأحسن .

وكما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب ، فكان الترغيب في نعيم الجنان ، والترهيب من عذاب النيران ، من أعظم وجوه الترغيب والترهيب ، فالآية من الاحتباك : ذكر المتاع أولاً دليلاً على حذف التوسع ثانياً ، والقرار ثانياً دليلاً على حذف الارتحال أولاً .