وجملة " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " مقررة لمضمون ما قبلها ، مبنية لحلول وقت ذلك العذاب بهم .
أى : لهم عذاب عظيم يوم القيامة ، يوم يقفون أمام الله - تعالى - للحساب فتشهد عليهم ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم ، بما كانوا يعملونه فى الدنيا من أعمال سيئة ، وبما كانوا يقولونه من أقوال قبيحة .
فالمراد بشهادة هذه الجوارح ، نطقها وإخبارها عما كانوا يعملونه فى الدنيا .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ . . . } وقوله - سبحانه - { اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .
الظرف في قوله : { يوم تشهد عليهم } متعلق بما تعلق به الظرف المجعول خبراً للمبتدأ في قوله : { ولهم عذاب عظيم } . وذكر شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم للتهويل عليهم لعلهم يتقون ذلك الموقف فيتوبون .
وشهادة الأعضاء على صاحبها من أحوال حساب الكفار .
وتخصيص هذه الأعضاء بالذكر مع أن الشهادة تكون من جميع الجسد كما قال تعالى : { وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا } [ فصلت : 21 ] لأن لهذه الأعضاء عملاً في رمي المحصنات فهم ينطقون بالقذف ويشيرون بالأيدي إلى المقذوفات ويسعون بأرجلهم إلى مجالس الناس لإبلاغ القذف .
وقرأ حمزة والكسائي وخلف { يشهد عليهم } بالتحتية ، وذلك وجه في الفعل المسند إلى ضمير جمع تكسير .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولهم عذاب عظيم (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) فاليوم الذي في قوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ) من صلة قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وعُني بقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) يوم القيامة، وذلك حين يجحد أحدهم ما اكتسب في الدنيا من الذنوب، عند تقرير الله إياه بها فيختم الله على أفواههم، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوا من غير اختيار منهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أتبع ذلك ذكر اليوم الذي يكون فيه أثر ذلك على وجه زاد الأمر عظماً فقال: {يوم تشهد عليهم} أي يوم القيامة في ذلك المجمع العظيم {ألسنتهم} إن ترفعوا عن الكذب {وأيديهم وأرجلهم} إن أنكرت ألسنتهم كذباً وفجوراً ظناً أن الكذب ينفعها {بما كانوا يعملون} من هذا القذف وغيره.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتخصيص هذه الأعضاء بالذكر مع أن الشهادة تكون من جميع الجسد كما قال تعالى: {وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا} [فصلت: 21] لأن لهذه الأعضاء عملاً في رمي المحصنات فهم ينطقون بالقذف ويشيرون بالأيدي إلى المقذوفات ويسعون بأرجلهم إلى مجالس الناس لإبلاغ القذف.
نعلم جميعا أن اللسان هو الذي يتكلم، فماذا أضافت الآية: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} قالوا: في الدنيا يتكلم اللسان وينطق، لكن المتكلم في الحقيقة أنت، لأنه ما تحرك إلا بمرادك له، فاللسان آلة خاضعة لإرادتك، إذن: فهو مجرد آلة، أما في الآخرة فسوف ينطق اللسان على غير مراد صاحبه، لأن صاحبه ليس له مراد الآن. ولتقريب هذه المسألة: ألا ترى كيف يخرس الرجل اللبيب المتكلم، ويمسك لسانه بعد طلاقته، بسبب مرض أو نحوه، فلا يستطيع بعدها الكلام، وهو ما يزال في سعة الدنيا. فما الذي حدث؟ مجرد أن تعطلت عنده آلة الكلام، فهكذا الأمر في الآخرة تتعطل إرادتك وسيطرتك على جوارحك كلها، فتنطق وتتحرك، لا بإرادتك، إنما بإرادة الله وقدرته.
فالمعنى {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} أي: شهادة ونطقا على مراد الله، لا على مراد أصحابها...إذن: فاللسان محل القول، وهو طوع إرادتك في الدنيا، أما في الآخرة فقد شلت هذه الإرادة ودخلت في قوله تعالى: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (16)} [غافر].
ثم يقول سبحانه: {وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} وهذه جوارح لم يكن لها نطق في الدنيا، لكنها ستنطق اليوم. ويحاول العلماء تقريب هذه المسألة فيقولون: إن الجارحة حين تعمل أي عمل يلتقط لها صورة تسجل ما عملت، فنطقها يوم القيامة أن تظهر هذه الصورة التي التقطت. والأقرب من هذا كله أن نقول: إنها تنطق حقيقة، كما قال تعالى حكاية عن الجوارح: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (21)} [فصلت]: ومعنى: {الذي أنطق كل شيء} أن لكل شيء في الكون نطقا يناسبه، كما نطقت النملة وقالت: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم.. (18)} [النمل]، ونطق الهدهد، فقال: {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين (22)} [النمل]. وقد قال تعالى عن نطق هذه الأشياء: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.. (44)} [الإسراء]. لكن، إن أراد الله لك أن تفقه نطقهم فقهك كما فقه سليمان عليه السلام، حين فهم عن النملة: {فتبسم ضاحكا من قولها.. (19)} [النمل]: كما فهم عن الهدهد، وخاطبه في قضية العقيدة. وإن كان النطق عادة يفهم عن طريق الصوت، فلكل خلق نطقه الذي يفهمه جنسه، لذلك نسمع الآن مع تقدم العلوم عن لغة للأسماك، ولغة للنحل... إلخ...ولو سألت هذه الجوارح: لم شهدت علي وأنت التي فعلت؟ لقالت لك: فعلنا لأننا كنا على مرادك مقهورين لك، إنما يوم ننحل عن إرادتك ونخرج عن قهرك، فلن نقول إلا الحق.