قوله تعالى : { ذرهم } ، يا محمد ، يعني : الذين كفروا ، { يأكلوا } في الدنيا ، { ويتمتعوا } ، من لذاتهم { ويلههم } ، يشغلهم ، { الأمل } ، عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة ، { فسوف يعلمون } ، إذا وردوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا ، وهذا تهديد ووعيد . وقال بعض أهل العلم : { ذرهم } تهديد ، وقوله : { فسوف يعلمون } تهديد آخر ، فمتى يهنأ العيش بين تهديدين . والآية نسختها آية القتال .
ثم أمر - سبحانه - الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يذرهم في طغيانهم يعمهون ، بعد أن ثبت أنهم قوم لا ينفع فيهم إنذار فقال - تعالى - : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } .
وذر فعل أمر بمعنى اترك ، ومضارعه يذر ، ولا يستعمل له ماض إلا في النادر ، ومن هذا النادر ما جاء في الحديث الشريف : " ذروا الحبشة ما وذرتكم " .
و { يتمتعوا } من المتاع بمعنى الانتفاع بالشئ بتلذذ وعدم نظر إلى العواقب .
{ ويلههم } : من الانشغال عن الشئ ونسيانه ، يقال : فلان ألهاه كذا عن أداء واجبه ، أى : شغله .
والأمل : الرغبة في الحصول على الشئ ، وأكثر ما يستعمل فيما يستبعد حصوله .
والمعنى : اترك - أيها الرسول الكريم - هؤلاء الكافرين ، وخلهم وشأنهم ، ليأكلوا كما تأكل الأنعام ، وليتمتعوا بدنياهم كما يشاءون ، وليشغلهم أملهم الكاذب عن اتباعك ، فسوف يعلمون سوء عاقبة صنيعهم في العاجل أو الآجل .
قال صاحب الكشاف : وقوله { ذرهم } يعنى اقطع طمعك من ارعوائهم ، ودعهم من النهى عما هم عليه ، والصد عنه بالتذكرة والنصيحة ، واتركهم { يأكلوا ويتمتعوا } بدنياهم ، وتنفيذ شهواتهم ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمال واستقامة الأحوال وألا يلقوا في العاقبة إلا خيرا فسوف يعلمون سوء صنيعهم .
وإنما أمره - سبحانه - بذلك ، لعدم الرجاء في صلاحهم ، بعد أن مكث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم زمناً طويلاً ، يدعوهم إلى الحق ، بأساليب حكيمة .
وفى تقديم الأكل على غيره ، إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل والمشارب . قال - تعالى - : { . . . والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام والنار مَثْوًى لَّهُمْ } كما أن فيه تعييرا لهم بما تعارفوا عليه من أن الاقتصار في الحياة على إشباع اللذات الجسدية ، دون التفات إلى غيرها من مكارم الأخلاق ، يدل على سقوط الهمة ، وبلادة الطبع . قال الخطيئة يهجو الزبرقان بن عمرو :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها . . . واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى
أى : واقعد عن طلب المكارم والمعالى فإنك أنت المطعوم المكسو من جهة غيرك .
والفعل { يأكلوا } وما عطف عليه مجزوم في جواب الأمر { ذرهم } ، وبعضهم يجعله مجزوم بلام الأمر المحذوفة ، الدالة على التوعد والتهديد ، ولا يستحسن جعله مجزوما في جواب الأمر ، لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء أترك الرسول صلى الله عليه وسلم دعوتهم أم دعاهم .
والفاء في قوله - سبحانه - { فسوف يعلمون } للتفريع الدال على الزجر والإنذار . والاستجابة للحق قبل فوات الأوان .
أى : ذرهم فيما هم فيه من حياة حيوانية ، لا تفكر فيها ولا تدبر ، ومن آمال خادعة براقة شغلتهم عن حقائق الأمور ، فسوف يعلمون سوء عاقبة ذلك وسوف يرون ما يحزنهم ويشقيهم ويبكيهم طويلاً بعد أن ضحكوا قليلاً . . .
وفى ذلك إشارة إلى أن لإِمهالهم أجلا معينا ينقضى عنده ، ثم يأتيهم العذاب الأليم .
قال الآلوسى - رحمه الله - : وفى هذه الآية إشارة إلى أن التلذذ والتنعم ، وعدم الاستعداد للآخرة ، والتأهب لها ، ليس من أخلاق من يطلب النجاة .
وجاء عن الحسن : ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل .
وأخرج أحمد في الزهد ، والطبرانى في الأوسط ، والبيهقى في شعب الإِيمان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - لا أعلمه إلا رفعه - قال : " صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ، ويهلك آخرها بالبخل وطول الأمل " .
وفى بعض الآثار عن علي - كرم الله وجهه - : " إنما أخشى عليكم اثنين : طول الأمل ، واتباع الهوى ، فإن طول الأمل ينسى الآخرة ، واتباع الهوى يصد عن الحق " .
هذا ، وشبيهه بهذه الآية قوله - تعالى - : { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ } وقوله - تعالى - : { فَذَرْهُمْ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ } وقوله - تعالى - : { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار }
ربما . . ولكن حيث لا ينفع التمني ولا تجدي الودادة . . ربما . . وفيها التهديد الخفي ، والاستهزاء الملفوف ؛ وفيها كذلك الحث على انتهاز الفرصة المعروضة للإسلام والنجاة قبل أن تضيع ، ويأتي اليوم الذي يودون فيه لو كانوا مسلمين ؛ فما ينفعهم يومئذ أنهم يودون !
( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ) . .
ذرهم فيما هم فيه من حياة حيوانية محضة للأكل والمتاع . لا تأمل فيها ولا تدبر ولا استطلاع . ذرهم في تلك الدوامة : الأمل يلهي والمطامع تغر ، والعمر يمضي والفرصة تضيع . ذرهم فلا تشغل نفسك بهؤلاء الهالكين ، الذين ضلوا في متاهة الأمل الغرور ، يلوح لهم ويشغلهم بالأطماع ، ويملي لهم فيحسبون أن أجلهم ممدود ، وأنهم محصلون ما يطمعون لا يردهم عنه راد ، ولا يمنعهم منه مانع . وأن ليس وراءهم حسيب ؛ وأنهم ناجون في النهاية بما ينالون مما يطعمون !
وصورة الأمل الملهي صورة إنسانية حية . فالأمل البراق ما يزال يخايل لهذا الإنسان ، وهو يجري وراءه ، وينشغل به ، ويستغرق فيه ، حتى يجاوز المنطقة المأمونة ؛ وحتى يغفل عن الله ، وعن القدر ، وعن الأجل ؛ وحتى ينسى أن هنالك واجبا ، وأن هنالك محظورا ؛ بل حتى لينسى أن هنالك إلها ، وأن هنالك موتا ، وأن هناك نشورا .
وهذا هو الأمل القاتل الذي يؤمر الرسول [ ص ] أن يدعهم له . . ( فسوف يعلمون ) . . حيث لا ينفع العلم بعد فوات الأوان . . وهو أمر فيه تهديد لهم ، وفيه كذلك لمسة عنيفة لعلهم يصحون من الأمل الخادع الذي يلهيهم عن المصير المحتوم .
{ ذرهم } دعهم . { يأكلوا ويتمتّعوا } بدنياهم . { ويُلههم الأمل } ويشغلهم توقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال عن الاستعداد للمعاد . { فسوف يعلمون } سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه ، والغرض إقناط الرسول صلى الله عليه وسلم من أرعوائهم وإيذانه بأنهم من أهل الخذلان ، وإن نصحهم يعد اشتغال بما لا طائل تحته ، وفيه إلزام للحجة وتحذير عن ايثار التنعم وما يؤدي إليه طول الأمل .
وقوله : { ذرهم يأكلوا } الآية وعيد وتهديد ، وما فيه من المهادنة منسوخ بآية السيف . وقوله : { فسوف يعلمون } وعيد ثان ، وحكى الطبري عن بعض العلماء أنه قال : الأول في الدنيا ، والثاني في الآخرة ، فكيف تطيب حياة بين هذين الوعيدين ؟
ومعنى قوله : { ويلههم } أي يشغلهم أملهم في الدنيا والتزيد منها عن النظر والإيمان بالله ورسوله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذرهم يأكلوا}، يقول: خل يا محمد صلى الله عليه وسلم، عن كفار مكة إذا كذبوك يأكلوا، {ويتمتعوا}، في دنياهم، {ويلههم الأمل}، يعني: طول الأمل عن الآخرة، {فسوف يعلمون}، هذا وعيد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ذر يا محمد هؤلاء المشركين يأكلوا في هذه الدنيا ما هم آكلوه، ويتمتعوا من لذاتها وشهواتهم فيها إلى أجلهم الذي أجلت لهم، ويُلْهِهم الأمل عن الأخذ بحظهم من طاعة الله فيها وتزوّدهم لمعادهم منها بما يقربهم من ربهم، فسوف يعلمون غدا إذا وردوا عليه وقد هلكوا على كفرهم بالله وشركهم حين يُعاينون عذاب الله أنهم كانوا من تمتعهم بما كانوا يتمتعون فيها من اللذّات والشهوات كانوا في خسار وتباب...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ذرهم يأكلوا ويتمتعوا} هذا ليس على الأمر، ولكن على التوعيد والتهديد وإبلاغ في الوعيد تأكيد كقوله: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} (فصت: 40) وهو على التوعيد لأنه قال: {إنه بما تعملون بصير} فعلى ذلك قوله: {ذرهم يأكلوا} وعيد لقوله: {فسوف يعلمون} ويشبه أن يكون {ذرهم} ولا تكافئهم بصنيعهم وشفقتك لهم أنك نصحت لهم وأشفقت لا أنك خنتهم، أو يعلمون بما سخروا بكم وهزئوا.
{ويلههم الأمل} الأمل: الطمع. اختلف فيه بوجوه:
أحدها: أي منعهم طمعهم أنهم وآباؤهم قد أصابوا الحق، ذلك منعهم عن الإجابة والنظر في الآيات والحجج.
والثاني: تقديرهم بامتداد حياتهم لتبقى لهم الرئاسة والشرف، ذلك الذي كان يمنعهم عن الإجابة والنظر في الآيات والحجج.
والثالث: يطمعون هلاك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتمنون ذلك، وانقطاع ملكه وأمره، والعود إليهم، فذلك الذي كان منعهم...
{ذرهم يأكلوا ويتمتعوا} الآية في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون. أيس رسوله من إيمانهم، وهو كقوله: {ونذرهم في طغيانهم يعمهون} (الأنعام: 110)...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قيمة كل امرئٍ على حسب هِمَّتِه؛ فإذا كانت الهمةُ مقصورةً على الأكل والتمتع بالصفة البهيمية، لا يُحَاسَبُ، وعلى العقل لا يُطَالَبُ: فالتَّكليفُ يتبعه التشريف! وغداً سوف يعلمون...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ذَرْهُمْ} يعني: اقطع طمعك من ارعوائهم، ودعهم عن النهي عما هم عليه والصدّ عنه بالتذكرة والنصيحة، وخلهم {يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} بدنياهم وتنفيذ شهواتهم، ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال، وأن لا يلقوا في العاقبة إلا خيراً، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} سوء صنيعهم. والغرض الإيذان بأنهم من أهل الخذلان، وأنهم لا يجيء منهم إلا ما هم فيه، وأنه لا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ، ولا سبيل إلى اتعاظهم قبل ذلك فأمر رسوله بأن يخليهم وشأنهم ولا يشتغل بما لا طائل تحته، وأن يبالغ في تخليتهم حتى يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندماً في العاقبة. وفيه إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار وإعذار فيه. وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم هو ما يؤدّي إليه طول الأمل، وهذه هجيرى أكثر الناس، ليس من أخلاق المؤمنين. وعن بعضهم: التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين.
المعنى: دع الكفار يأخذوا حظوظهم من دنياهم فتلك أخلاقهم ولا خلاق لهم في الآخرة..
{ويلههم الأمل}..قال الكسائي والأصمعي: كل شيء تركته فقد لهيت عنه..
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
حقيقة الأمل: الحرص على الدنيا والانكباب عليها، والحب لها والإعراض عن الآخرة..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما طرق لهم سبحانه الاحتمال، كان كأنه قيل: هل جوزوه فأخذوا في الاستعداد له؟ فقيل: بل استمروا على عنادهم، فقال -مستأنفاً ملتفتاً إلى ما أشار إليه في أول سورة ابراهيم في قوله {الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} [إبراهيم:3] من المانع لهم عن الإذعان -: {ذرهم} يا أعز الخلق عندنا! كالبهائم {يأكلوا ويتمتعوا}...
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير في برهانه: لما تقدم من وعيد الكفار ما تضمنه الآي المختتم بها سورة ابراهيم من لدن قوله سبحانه ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} [إبراهيم:42] إلى خاتمتها، أعقب ذلك بقوله: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} أي عند مشاهدة تلك الأحوال الجلائل، ثم قال تعالى تأكيداً لذلك الوعيد {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} ثم أعقب تعالى: هذا ببيان ما جعله سنة في عباده من ارتباط الثواب والعقاب معجلة ومؤجلة بأوقات وأحيان لا انفكاك لها عنها ولا تقدم ولا تأخر، إذ استعجال البطش في الغالب إنما يكون ممن يخاف الفوت، والعالم بجملتهم لله تعالى وفي قبضته لا يفوته أحد منهم ولا يعجزه، وقال تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} وكان هذا يزيد إيضاحاً قوله عز وجل: {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} [إبراهيم: 42] وقوله: [وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب} وقوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} [إبراهيم: 48] الآية؛ وتأمل نزول قوله: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} على هذا وعظيم موقعه في اتصاله به ووضوح ذلك كله، وأما افتتاح السورة بقوله: {الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} فإحالة على أمرين واضحين: أحدهما ما نبه به سبحانه من الدلائل والآيات كما يفسر، والثاني ما بينه القرآن المجيد وأوضحه وانطوى عليه من الدلائل والغيوب والوعد والوعيد وتصديق بعض ذلك بعضاً، فكيف لا يكون المتوعد به في قوة الواقع المشاهد، لشدة البيان في صحة الوقوع فالعجب من التوقف والتكذيب! ثم أعقب هذا بقوله {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} انتهى.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{ذَرْهُمْ}... وبالِغْ في تخليتهم وشأنَهم بل مُرْهم بتعاطي ما يتعاطَوْنه {يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} بدنياهم، وفي تقديم الأكل إيذانٌ بأن تمتعَهم إنما هو من قبيل تمتعِ البهائم بالمآكل والمشارب، والمرادُ دوامُهم على ذلك لا إحداثُه، فإنهم كانوا كذلك، أو تمتعُهم بلا استماعِ ما ينغص عيشَهم من القوارع والزواجر، فإن التمتعَ على ذلك الوجه أمرٌ حادث يصلُح أن يكون مترتباً على تخليتهم وشأنَهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
...وتهديد آخر ملفوف: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون).. ذرهم فيما هم فيه من حياة حيوانية محضة للأكل والمتاع. لا تأمل فيها ولا تدبر ولا استطلاع. ذرهم في تلك الدوامة: الأمل يلهي والمطامع تغر، والعمر يمضي والفرصة تضيع. ذرهم فلا تشغل نفسك بهؤلاء الهالكين، الذين ضلوا في متاهة الأمل الغرور، يلوح لهم ويشغلهم بالأطماع، ويملي لهم فيحسبون أن أجلهم ممدود، وأنهم محصلون ما يطمعون لا يردهم عنه راد، ولا يمنعهم منه مانع. وأن ليس وراءهم حسيب؛ وأنهم ناجون في النهاية بما ينالون مما يطعمون! وصورة الأمل الملهي صورة إنسانية حية. فالأمل البراق ما يزال يخايل لهذا الإنسان، وهو يجري وراءه، وينشغل به، ويستغرق فيه، حتى يجاوز المنطقة المأمونة؛ وحتى يغفل عن الله، وعن القدر، وعن الأجل؛ وحتى ينسى أن هنالك واجبا، وأن هنالك محظورا؛ بل حتى لينسى أن هنالك إلها، وأن هنالك موتا، وأن هناك نشورا. وهذا هو الأمل القاتل الذي يؤمر الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن يدعهم له.. (فسوف يعلمون).. حيث لا ينفع العلم بعد فوات الأوان.. وهو أمر فيه تهديد لهم، وفيه كذلك لمسة عنيفة لعلهم يصحون من الأمل الخادع الذي يلهيهم عن المصير المحتوم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما دلّت (رُبّ) على التقليل اقتضت أن استمرارهم على غلوائهم هو أكثر حالهم، وهو الإعراض عما يدعوهم إليه الإسلام من الكمال النفسي، فبإعراضهم عنه رضوا لأنفسهم بحياة الأنعام، وهي الاقتصار على اللذات الجسدية، فخوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يُعرّض لهم بذلك من أن حياتهم حياة أكل وشرب.
وذلك مما يتعيّرون به في مجاري أقوالهم كما في قول الحطيئة:
دَع المكارم لا تنهض لبُغيتها *** واقعُدْ فإنك أنتَ الطاعم الكاسي..
وهم منغمسون فيما يتعيّرون به في أعمالهم قال تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} [سورة محمد: 12]. و {ذر} أمر لم يسمع له ماض في كلامهم. وهو بمعنى الترك. وتقدم في قوله: {وذر الذين اتّخذوا دينهم لعباً ولهواً} في سورة الأنعام (70). والأمر بتركهم مستعمل في لازمه وهو قلة جدوى الحرص على إصلاحهم. وليس مستعملاً في الإذن بمتاركتهم لأن النبي مأمور بالدوام على دعائهم. قال تعالى: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً} إلى قوله: {وذكّر به أن تبسل نفس بما كسبت} [سورة الأنعام: 70]. فما أمره بتركهم إلا وقد أعقبه بأمره بالتذكير بالقرآن؛ فعلم أن الترك مستعمل في عدم الرجاء في صلاحهم...
وقد يستعمل هذا الفعل وما يراد به كناية عن عدم الاحتياج إلى الإعانة أو عن عدم قبول الوساطة كقوله تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} [سورة المدثر: 11]، وقوله: {وذرني والمكذبين} [سورة المزمل: 11]
وقد يستعمل في الترك المجازي بتنزيل المخاطب منزلة المتلبّس بالضدّ... إذ مثل هذا يقال عند اليأس والقنوط عن صلاح المرء. وقد حذف متعلق الترك لأن الفعل نزل منزلة ما لا يحتاج إلى متعلق، إذ المعني به ترك الاشتغال بهم والبعد عنهم، فلذلك عدّي فعل الترك إلى ذواتهم ليدل على اليأس منهم. و {يأكلوا} مجزوم بلام الأمر محذوفة كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} في سورة إبراهيم (31). وهو أمر للتوبيخ والتوعد والإنذار بقرينة قوله: {فسوف يعلمون}. وهو كقوله: {كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون} سورة المرسلات (46). ولا يحسن جعله مجزوماً في جواب ذرهم} لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك الرسول صلى الله عليه وسلم دعوتهم أم دعاهم. والتمتع: الانتفاع بالمتاع. وقد تقدم غير مرة، منها قوله: {ومتاع إلى حين} في سورة الأعراف (24). وإلهاء الأمل إياهم: هو إنساؤه إياهم ما حقهم أن يتذكروه؛ بأن يصرفهم تطلب ما لا ينالون عن التفكير في البعث والحياة الآخرة. و {الأمَلُ}: مصدر. وهو ظن حصول أمر مرغوب في حصوله مع استبعاد حصوله. فهو واسطة بين الرجاء والطمع.
وتفرع على التعريض التصريح بالوعيد بقوله: {فسوف يعلمون} بأنه مما يستعمل في الوعيد كثيراً حتى صار كالحقيقة. وفيه إشارة إلى أن لإمهالهم أجلاً معلوماً كقوله: {وسوف يعلمون حين يرون العذاب} [سورة الفرقان: 42].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يأتي نداء السماء بلهجة لاذعة، يا محمّد (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) فهم كالأنعام التي لا تعرف سوى الحقل والعلف، ولا تفهم سوى اللّذات المادية، وكل ما تريده لا يتعدى إِطار ما تعرف وتفهم. إِنّهم لا يدركون فقه الحقائق، لأنّ حجب الغرور والغفلة والأماني الزائفة ختمت على قلوبهم. و لكن، عندما يصفع الأجل وجوههم وترتفع تلك الحجب عن أعينهم، وحينما يجدون أنفسهم أمام الموت أو في عرصة يوم القيامة، هنالك سيدركون عظمة حجم غفلتهم ومدى خسرانهم، وكيف أنّهم قد ضيعوا أغلى ما كانوا يملكون!...