ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك قصص بعض الأنبياء السابقين مع أقوامهم لتثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم وتسليته عما أصابه من قومه ، وابتدأ تلك القصص ببيان جانب من قصة نوح - عليه السلام - مع قومه فقال - تعالى - :
{ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ . . . } .
قصة نوح - عليه السلام - قد وردت فى القرآن الكريم فى سور متعددة منها : سورة الأعراف ، وسورة هود ، وسورة نوح ، وسورة المؤمنون .
وهنا يحدثنا القرآن عن جانب من النعم التى أنعم بها الله - تعالى - على نبيه نوح - عليه السلام - حيث أجاب له دعاءه ، ونجاه وأهله من الكرب العظيم وأهلك أعداءه المكذبين .
واللام فى قوله : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ . . . } واقعة فى جواب القسم محذوف والمراد بالنداء الدعاء الذى تضرع به نوح - عليه السلام - وطلب منا أن ننصره على قومه الكافرين فاستجبنا له أحسن إجابة ، ونعم المجيبون نحن ، فقد أهلكنا أعداءه بالطوفان .
أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : كان النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى فى بيتى فمر بهذه الآية ، قال : " صدقت ربنا ، أنت أقرب من دعى ، وأقرب من بُغِى - أى طُلِب لإِجابة الدعاء - فنعم المدعو أنت ، ونعم المعطى أنت ، ونعم المسئول أنت ربنا ونعم المصير " .
ويبدأ بقصة نوح في إشارة سريعة تبين العاقبة ، وتقرر عناية الله بعباده المخلصين :
( ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون . ونجيناه وأهله من الكرب العظيم . وجعلنا ذريته هم الباقين . وتركنا عليه في الآخرين ، سلام على نوح في العالمين . إنا كذلك نجزي المحسنين . إنه من عبادنا المؤمنين . ثم أغرقنا الآخرين ) .
وتتضمن هذه الإشارة توجه نوح بالنداء إلى ربه ، وإجابة دعوته إجابة كاملة وافية . إجابتها من خير مجيب . الله سبحانه . ( فلنعم المجيبون ) . .
لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة ، شرع يبين ذلك مفصلا فذكر نوحا ، عليه السلام ، وما لقى من قومه من التكذيب ، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة ، [ فإنه ] {[24995]} لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فلما طال عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم ، وكلما دعاهم ازدادوا نفرة ، فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ، فغضب الله لغضبه عليهم ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } أي : فلنعم المجيبون{[24996]} له .
أتبع التذكير والتسلية من جانب النظر في آثار ما حلّ بالأمم المرسَل إليهم ، وما أخبر عنه من عاقبتهم في الآخرَة ، بتذكير وتسلية من جانب الإِخبار عن الرسل الذين كذّبهم قومهم وآذَوهم وكيف انتصر الله لهم ليزيد رسول صلى الله عليه وسلم تثبيتاً ويُلْقِم المشركين تبْكيتاً . وذكر في هذه السورة ست قصص من قصص الرسل مع أقوامهم لأن في كل قصة منها خاصيةً لها شبَهٌ بحال الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه وبحاله الأكمل في دعوته ، ففي القِصص كلّها عبرة وأسوة وتحذير كما سيأتي تفصيله عند كل قصة منها ، ويجمعها كلّها مقاومة الشرك ومقاومة أهلها . واختير هؤلاء الرسل الستة : لأن نوحاً القدْوة الأولى ، وإبراهيم هو رسول الملة الحنيفية التي هي نواة الشجرة الطيبة شجرة الإِسلام ، وموسى لشبه شريعته بالشريعة الإِسلامية في التفصيل والجمع بين الدين والسلطان ، فهؤلاء الرسل الثلاثة أصول . ثم ذكر ثلاثة رسل تفرّعوا عنهم وثلاثتهم على ملّة رسل من قبلهم . فأما لوط فهو على ملة إبراهيم ، وأما إلياس ويونس فعلى ملة موسى .
وابتدى بقصة نوح مع قومه فإنه أول رسول بعثه الله إلى الناس وهو الأسوة الأولى والقدوة المثلى . وابتداء القصة بذكر نداء نوح ربه موعظة للمشركين ليحذروا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه تعالى بالنصر عليهم كما دعا نوح على قومه وهذا النداء هو المحكي في قوله : { قال رب انصرني بما كذبون } [ المؤمنون : 26 ] ، وقوله : { قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً } الآيات من سورة [ نوح : 21 ] .
والفاء في قوله : { فلَنِعْمَ المُجِيبونَ } تفريع على { نادَانَا } ، أي نادانا فأجبناه ، فحذف المفرّع لدلالة { فلنعم المجيبون } عليه لتضمنه معنى فأجبناه جواب من يقال فيه : نعم المجيب . والمخصوص بالمدح محذوف ، أي فلَنِعْم المجيبون نحن . وضمير المتكلم المشارَك مستعمل في التعظيم كما هو معلوم . وتأكيد الخبر وتأكيد ما فرع عليه بلام القسم لتحقيق الأمرين تحذيراً للمشركين بعد تنزيلهم منزلة من ينكر أن نوحاً دعا فاستجيب له .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لقد نادانا نوح بمسألته إيانا هلاك قومه، فقال:"رَبّ إنّي دَعَوْتُ قَوْمي لَيْلاً ونهارا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائي إلاّ فِرَارا" إلى قوله: "رَبّ لا تَذَرْ على الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارا".
وقوله: "فَلَنِعْمَ المُجِيبُونَ "يقول: فلنعم المجيبون كنا له إذ دعانا، فأجبنا له دعاءه، فأهلكنا قومه.
"وَنَجّيْناهُ وأهْلَهُ" يعني: أهل نوح الذين ركبوا معه السفينة...
وقوله: "مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ" يقول: من الأذى والمكروه الذي كان فيه من الكافرين، ومن كرب الطّوفان والغرق الذي هلك به قوم نوح.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
بيّن تعالى أن الرسل عليهم السلام هم مخصوصون بأمرين من بين غيرهم من الناس: أحدهما: أن ليس لهم الدعاء على قومهم بالهلاك وسؤال العذاب عليهم إلا بعد مجيء الإذن لهم من الله عز وجل بالدعاء عليهم، فنوح عليه السلام إنما دعا ربه بإنزال الهلاك عليهم بالإذن من ربه.
والثاني: لم يكن لهم الخروج من بين أظهرهم عند نزول العذاب بهم إلا بإذن من الله عز وجل على ذلك.
{فلنِعم المجيبون} وهو الرب تبارك وتعالى، ذكر المجيبين على الجماعة أنا نفعل كذا، وفعلنا كذا، وهو كلام الملوك في ما بينهم، وإنجاز ذلك لا يعجزه شيء، وغيره من الخلائق، لعلهم لا يقدرون على وفاء ذلك والقيام بإنجاز ما وعدوا؛ لذلك كان ما ذكر.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
دعاؤه كان على قومه عند إياسه من إيمانهم، وإنما دعا عليهم بالهلاك بعد طول الاستدعاء لأمرين:
أحدهما: ليطهر الله الأرض من العصاة.
الثاني: ليكونوا عبرة يتعظ بها من بعدهم من الأمم.
{فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: فلنعم المجيبون لنوح في دعائه.
الثاني: فلنعم المجيبون لمن دعا لأن التمدح بعموم الإجابة أبلغ.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
رَجَعَ إلينا، فخاطبنا وخاطبناه، وكلمنا وَكلمناه، وَنادانا فناديناه، وكان لنا فكَّنا له وأجابنا فأجبناه.. فَلَنِعْمَ المجيبُ كان لنا ولنعمَ المجيبون كُنَّا له!
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية وسوء عاقبة المنذرين، أتبع ذلك ذكر نوح ودعائه حين آيس من قومه والمعنى: إنا أجبناه أحسن الإجابة، وأوصلها إلى مراده وبغيته من نصرته على أعدائه والانتقام منهم بأبلغ ما يكون.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
نداء نوح عليه السلام قد تضمن أشياء منها الدعاء على قومه، ومنها سؤال النجاة ومنها طلب النصرة، وفي جميع ذلك وقعت الإجابة، وقوله تعالى: {فلنعم المجيبون} يقتضي الخبر أن الإجابة كانت على أكمل ما أراد نوح عليه السلام.
{فلنعم المجيبون} وهذه اللفظة تدل على أن تلك الإجابة كانت من النعم العظيمة وبيانه من وجوه:
الأول: أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال: {ولقد نادانا نوح} والقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم.
والثاني: أنه أعاد صيغة الجمع في قوله: {فلنعم المجيبون}، وذلك أيضا يدل على تعظيم تلك النعمة، لا سيما وقد وصف تلك الإجابة بأنها نعمت الإجابة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان مقصود السورة التنزيه الذي هو الإبعاد عن النقائص، ولذلك كان أنسب الأشياء الإقسام، أولها بالملائكة الذين هم أنزه الخلق، وكان أعلى الخلق من جرد نفسه عن الحظوظ بما يؤتيه الله من المجاهدات والمنازلات والمعالجات، حتى يلحق بهم فيجوز مع فضلهم معالي الجهاد، فكان أحق الأنبياء بالذكر من كان أكثر تجريداً لنفسه من الشواغل سيراً إلى مولاه وتعريجاً عن كل ما سواه، وكان الأب الثاني من أحقهم بذلك لأنه تجرد في الجهاد بالدعاء إلى الله ألف عام ثم تجرد عن كل شيء على ظهر الماء بين الأرض والسماء، فقال تعالى مؤكداً لما تقدم من أنه دعا إلى التأكيد من أن مكثه في قومه المدة الطويلة مبعد لأن يكونوا وافقوه ومالوا معه وتابعوه، ولأن فعل العرب في التكذيب مع ترادف المعجزات وتواتر العظات عمل من هو مكذب بوقوع النصرة للمرسلين، والعذاب للمكذبين، عطفاً على ما تقديره: فقاسى الرسل من الشدائد ما لا تسعه الأوراق، وجاهدوهم بأنفسهم والتضرع إلى الله تعالى في أمرهم:
{ولقد نادانا} لما لنا من العظمة {نوح} ولما أغنت هذه الجملة عن شرح القصة وتطويلها، وكان قد تسبب عن دعائه إجابته، قال بالتأكيد بالاسمية والإشارة إلى القسم والأداة الجامعة لكل مدح وصيغة العظمة إلى أن هول عذابهم وعظم مصابهم بلغ إلى أنه مع شهرته لا يكاد يصدق، فهو يحتاج إلى اجتهاد كبير وشدة اعتناء، فكانت الإجابة إجابة من يفعل ذلك وإن كانت الأفعال بالنسبة إليه سبحانه على حد سواء، لا تحتاج إلى غير مطلق الإرادة:
{فلنعم المجيبون} كنا بما لنا من العظمة له ولغيره ممن كان نعم المجيب لنا، هذه صفتنا لا تغير لها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أتبع التذكير والتسلية من جانب النظر في آثار ما حلّ بالأمم المرسَل إليهم، وما أخبر عنه من عاقبتهم في الآخرَة، بتذكير وتسلية من جانب الإِخبار عن الرسل الذين كذّبهم قومهم وآذَوهم وكيف انتصر الله لهم ليزيد رسول صلى الله عليه وسلم تثبيتاً ويُلْقِم المشركين تبْكيتاً. وذكر في هذه السورة ست قصص من قصص الرسل مع أقوامهم لأن في كل قصة منها خاصيةً لها شبَهٌ بحال الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه وبحاله الأكمل في دعوته، ففي القِصص كلّها عبرة وأسوة وتحذير كما سيأتي تفصيله عند كل قصة منها، ويجمعها كلّها مقاومة الشرك ومقاومة أهلها. واختير هؤلاء الرسل الستة: لأن نوحاً القدْوة الأولى، وإبراهيم هو رسول الملة الحنيفية التي هي نواة الشجرة الطيبة شجرة الإِسلام، وموسى لشبه شريعته بالشريعة الإِسلامية في التفصيل والجمع بين الدين والسلطان، فهؤلاء الرسل الثلاثة أصول. ثم ذكر ثلاثة رسل تفرّعوا عنهم وثلاثتهم على ملّة رسل من قبلهم. فأما لوط فهو على ملة إبراهيم، وأما إلياس ويونس فعلى ملة موسى.
وابتدئ بقصة نوح مع قومه فإنه أول رسول بعثه الله إلى الناس وهو الأسوة الأولى والقدوة المثلى. وابتداء القصة بذكر نداء نوح ربه موعظة للمشركين ليحذروا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه تعالى بالنصر عليهم كما دعا نوح على قومه وهذا النداء هو المحكي في قوله: {قال رب انصرني بما كذبون} [المؤمنون: 26]، وقوله: {قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً} الآيات من سورة [نوح: 21].
والفاء في قوله: {فلَنِعْمَ المُجِيبونَ} تفريع على {نادَانَا}، أي نادانا فأجبناه، فحذف المفرّع لدلالة {فلنعم المجيبون} عليه لتضمنه معنى فأجبناه جواب من يقال فيه: نعم المجيب. والمخصوص بالمدح محذوف، أي فلَنِعْم المجيبون نحن. وضمير المتكلم المشارَك مستعمل في التعظيم كما هو معلوم. وتأكيد الخبر وتأكيد ما فرع عليه بلام القسم لتحقيق الأمرين تحذيراً للمشركين بعد تنزيلهم منزلة من ينكر أن نوحاً دعا فاستجيب له.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
هذه الآيات حلقة من سلسلة قصصية جاءت عقب ذكر مواقف الكفار ومصائرهم جريا على الأسلوب القرآني؛ وقد شاءت حكمة التنزيل أن تأتي فيها قصة نوح بهذا الأسلوب المقتضب الذي فيه تنويه بنوح عليه السلام، وإشارة إلى تنجيته وأهله من الشدة التي كانوا يلقونها من قومهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هكذا كان ككل عبد مخلصٍ لربه، يرفع الأمر إلى الله سبحانه، لأنه وحده الرب الرحيم الذي يستجيب لعباده، فنحن نلبي هذا النداء الذي انطلق على شكل استغاثةٍ رساليةٍ في تقريرٍ حافلٍ بكل التجربة الطويلة التي استنفدت كل الأساليب، واستخدمت كل الوسائل في سبيل هداية الناس.