ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جانبا من دلائل قدرته عن طريق ما يشاهده الناس فى البحر ، فقال - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام } .
والجوار : جمع جارية والمراد بها السفينة لأنها تجرى فى البحر ، وهى صفة لموصوف محذوف .
والأعلام : جمع علم وهو الجبل الكبير ، وأصله الأثر الذى يعلم به الشئ كعلم الطريق ، وعلم الجيش ، وسمى علما لأن الناس يسترشدون به فى سيرهم .
أى : ومن آياته - سبحانه - الدالة على كمال قدرته ، هذه السفن الجارية فى البحر ، حتى لكأنها من ضخامتها وعظمها الجبال الشاهقة .
( ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام . إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره . إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور . أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير . ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص ) . .
والسفن الجواري في البحر كالجبال آية أخرى من آيات الله . آية حاضرة مشهودة . آية تقوم على آيات كلها من صنع الله دون جدال . هذا البحر من أنشأه ? مَن مِن البشر أو غيرهم يدعي هذا الادعاء ? ومن أودعه خصائصه من كثافة وعمق وسعة حتى يحمل السفن الضخام ? وهذه السفن من أنشأ مادتها وأودعها خصائصها فجعلها تطفو على وجه الماء ? وهذه الريح التي تدفع ذلك النوع من السفن التي كانت معلومة وقتها للمخاطبين [ وغير الريح من القوى التي سخرت للإنسان في هذا الزمان من بخار أو ذرة أو ما يشاء الله بعد الآن ] من جعلها قوة في هذا الكون تحرك الجواري في البحر كالأعلام ? . .
يقول تعالى : ومن آياته الدالة على قدرته وسلطانه ، تسخيره البحر لتجري فيه الفلك بأمره ، وهي الجواري في البحر كالأعلام ، أي : كالجبال ، قاله مجاهد ، والحسن ، والسدي ، والضحاك ، أي : هي {[25905]} في البحر كالجبال في البر ، .
و { الجواري } جمع جارية ، وهي السفينة .
وقرأ : «الجواري » بالياء نافع وعاصم وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة ، ومنهم من أثبتها في الوصل ووقف على الراء . وقرأ أيضاً عاصم بحذف الياء في وصل ووقف . وقال أبو حاتم : نحن نثبتها في كل حال .
و : «الأعلام » الجبال ، ومنه قول الخنساء : [ البسيط ]
وإن صخراً لتأتم الهداة به . . . كأنه علم في رأسه نار{[10151]}
ومنه المثل : إذا قطعن علماً بدا علم{[10152]} فجري السفن في الماء آية عظيمة ، وتسخير الريح لذلك نعمة منه تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن آياته} أن تعرفوا توحيده بصنعه وإن لم تروه.
{الجوار في البحر كالأعلام}، يعني السفن تجري في البحر بالرياح كالأعلام، شبه السفن في البحر كالجبال في البر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ومن حجج الله أيها الناس عليكم بأنه القادر على كلّ ما يشاء، وأنه لا يتعذّر عليه فعل شيء أراده، السفن الجارية في البحر.
والجواري: جمع جارية، وهي السائرة في البحر.
"كالأعْلامِ" يعني كالجبال: واحدها علم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
تحتمل آياته ما ذكرنا من آيات وحدانيته وربوبيته وآيات قدرته وسلطانه وآيات علمه وتدبيره وحكمته وآيات نعمه وإحسانه، وهو ما جعل عز وجل في سرّية الخشب في السُّفن معنى لو اجتمع حكماء البشر ليعرفوا ذلك المعنى واللطف الذي جعل في الخشب ما قدروا على إدراك ذلك...
يحتمل قوله: {كالأعلام} معنى آخر، وهو الأعلام نفسها، وهو أن جعل السفن سببا وطريقا للوصول إلى منافع بعُدت منه، وصعُبت عليهم، فإذا حُمل فيها الأحمال من بلد إلى آخر ومن مكان إلى مكان يُسَرّ أهل المحمول إليهم بتلك الأحمال والسفن إذا رأوها في البحار تحمل إليهم سِلعا يتجُرون بها ومنافع تصل لهم. وكذلك يسرّ أهل المحمول عنهم إذا رأوها راجعة إليهم سالمة لما يحصل لهم من المنافع والأعراض بها، فتكون السفن أعلاما وأدلّة لهم على الأعراض والمنافع، والله أعلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما دل سبحانه على تمام قدرته واختياره وختم بنفي الشريك اللازم للوحدانية التي اعتقادها أساس الأعمال الصالحة، دل عليها بأعظم الآيات عندهم وأوضحها في أنفسهم وأقربها إلى إفهامهم لما لهم من الإخلاص عندها فقال تعالى: {ومن آياته} أي الدالة على تمام قدرته واختياره ووحدانيته وعظيم سلطانه تسخيره وتذليله لسير الفلك فيه حاملة ما لا يحمله غيرها، وهو معنى قوله: {الجوار} أي من السفن، وهي من الصفات التي جرت مجرى الأعلام، ودل على الموصوف ما بعده فلذلك حذف لأن القاعدة أن الصفة إذا لم تخص الموصوف امتنع حذفه فنقول: مررت بمهندس، ولا تقول: مررت بماشٍ -إلا بقرينة كما هنا.
ولما كانت ثقيلة في أنفسها، وكان يوضع فيها من الأحمال ما يثقل الجبال، وكان كل ثقيل ليس له من ذاته إلا الغوص في الماء، كانت كأنها فيه لا عليه لأنها جديرة بالغرق فقال تعالى محذراً من سطواته متعرفاً بجليل نعمته معرفاً بحقيقة الجواري: {في البحر كالأعلام} أي الجبال الشاهقة بما لها من العلو في نفسها عن الماء ثم بما يوصلها وما فيه من الشراع عليها من الارتفاع، وقال الخليل: كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما جرى تذكيرهم بأنّ ما أصابهم من مصيبة هو مسبب عن اقتراف أعمالهم، وتذكيرهم بحلول المصائب تارة وكشفها تارة أخرى بقوله: {ويعفو عن كثير} [الشورى: 30]، وأعقب بأنهم في الحالتين غير خارجين عن قبضة القدرة الإلهية سيق لهم ذكر هذه الآية جامعة مثالاً لإصابة المصائب وظهور مخائلها المخيفة المذكّرة بما يغفلون عنه من قدرة الله والتي قد تأتي بما أُنذروا به وقد تنكشف عن غير ضر، ودليلاً على عظيم قدرة الله تعالى وأنه لا محيص عن إصابة ما أراده، وإدماجاً للتذكير بنعمة السير في البحر وتسخير البحر للناس فإن ذلك نعمة، قال تعالى: {والفُلْكِ التي تجري في البحر بما يَنْفَعُ الناس} في سورة البقرة (164)، فكانت هذه الجملة اعتراضاً مثل جملة {ومن آياته خلق السماوات والأرض} [الشورى: 29].
والآيات: الأدلة الدالة على الحق.
والجواري: جمع جارية صفة لمحذوف دل عليه ذكر البحر، أي السفن الجواري في البحر كقوله تعالى في سورة الحاقة (11) {إنّا لَمَّا طَغَى الماء حملناكم في الجارية}، وعُدل عن: الفلك إلى {الجواري} إيماء إلى محل العبرة؛ لأن العبرة في تسخير البحر لجريها وتفكير الإنسان في صنعها.
والأعلام: جمع عَلَم وهو الجبل، والمراد: بالجواري السفن العظيمة التي تسع ناساً كثيرين، والعبرة بها أظهر والنعمة بها أكثر.