مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلۡجَوَارِ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ} (32)

قوله تعالى : { ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام * إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور * أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير * ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص * فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون * والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } . في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قرأ نافع وأبو عمرو{ الجواري } بياء في الوصل والوقف ، فإثبات الياء في الأصل وحذفها للتخفيف .

المسألة الثانية : الجواري ، يعني السفن الجواري ، فحذف الموصوف لعدم الالتباس .

المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى ذكر من آياته أيضا هذه السفن العظيمة التي تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح ، واعلم أن المقصود من ذكره أمران ( أحدهما ) أن يستدل به على وجود القادر الحكيم ( والثاني ) أن يعرف ما فيه من النعم العظيمة لله تعالى على العباد أما الوجه ( الأول ) فقد اتفقوا على أن المراد بالأعلام الجبال ، قالت الخنساء في مرثية أخيها :

وإن صخرا لتأتم الهداة به *** كأنه علم في رأسه نار

ونقل أن النبي صلى الله عليه وسلم استنشد قصيدتها هذه فلما وصل الراوي إلى هذا البيت ، قال : «قاتلها الله ما رضيت بتشبيهها له بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا ! » إذا عرفت هذا فنقول : هذه السفن العظيمة التي تكون كالجبال تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح على أسرع الوجوه ، وعند سكون هذه الرياح تقف ، وقد بينا بالدليل في سورة النحل ، أن محرك الرياح ومسكنها هو الله تعالى ، إذ لا يقدر أحد على تحريكها من البشر ولا على تسكينها ، وذلك يدل على وجود الإله القادر ، وأيضا أن السفينة تكون في غاية الثقل ، ثم إنها مع ثقلها بقيت على وجه الماء ، وهو أيضا دلالة أخرى ( وأما الوجه الثاني ) وهو معرفة ما فيها من المنافع ، فهو أنه تعالى خص كل جانب من جوانب الأرض بنوع آخر من الأمتعة ، وإذا نقل متاع هذا الجانب إلى ذلك الجانب في السفن وبالعكس حصلت المنافع العظيمة في التجارة ، فلهذه الأسباب ذكر الله تعالى حال هذه السفينة .