اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلۡجَوَارِ فِي ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَٰمِ} (32)

قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام } قرأ نافعٌ وأبو عمرو «الجواري » بياء في الوصل{[49357]} . وأما الوقف فإثباتها على الأصل وحذفها للتخفيف ، وهي السفن ، وأحدثها جاريةٌ ، وهي السائرة في البحر .

فإن قيل : الصفة متى لم تكن خاصةً بموصوفها امتنع حذف الموصوف ، لا تقول : مررت بماشٍ ؛ لأن المَشْيَ عامٌّ ، وتقول : مررت بمهندس وكاتبٍ ، والجري ليس من الصفات الخاصة فما وجه ذلك ؟

فالجواب : أن قوله : «في البحر » قرينة دالة على الموصوف ، ويجوز أن تكون هذه صفة غالبة كالأبطح{[49358]} والأبرق{[49359]} ، فوليت العوامل دون موصوفها{[49360]} . و«في البَحْرِ » متعلق «بالجواري » ، إذا لم يجر مجرى الجوامد ، فإن جرى مجراه كان حالاً منه{[49361]} ، وكذا قوله : «كالأَعْلاَمِ » وهي الجبال قالت الخَنْسَاءُ :

4383 وَإِنَّ صَخْراً لتَأْتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ *** كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأْسِهِ نَارُ{[49362]}

روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم استنشد ( ب ){[49363]} قصيدتها هذه ، فلما وصل ( الراوي ){[49364]} ( إلى ){[49365]} هذا البيت قال : قَاتَلَهَا اللهُ مَا رَضِيَتْ تَشْبِيهَهُ{[49366]} بالجَبَلِ حَتَّى جَعَلتْ في رَأْسِهِ نَاراً{[49367]} .

وقال مجاهد : الأعلام القصور ، واحدها علم . وقال الخليل بن أحمد : كل شيءٍ مرتفع عند العرب فهو علم وسمع : هذه الجوار ، وركبت الجوار ، وفي الجوار ، بالإعراب على الراء تناسياً للمحذوف{[49368]} ، وتقدم هذا في قوله تعالى : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] .

فصل

اعلم أن المقصود من ذكر هذه الآية أمران :

أحدهما : أن يستدل به على وجود الإله القادر الحكيم .

الثاني : أن يعرف ما فيه من النِّعم العظيمة لله تعالى على العباد ، وأما وجه الأول فإن هذه السفن العظيمة التي كالجبال تجري على وجه البحر عند هبوب الريح على أسرع الوجوه وعند سكون الرياح ( تقف ){[49369]} وقد تقدم في سورة النحل أن مُحَرِّك الرياح و مُسَكِّنَها هو الله ( سبحانه و ){[49370]} تعالى ؛ إذْ لا يقدر أحد من البشر على تحريكها ولا على تسكينها ، وذلك يدل وجود الإله القادر مع أن تلك السفينة في غاية الثقل ومع ثقلها بقيت على وجه الماء أيضاً . وأما دلالتها على النعم العظيمة ، وهو ما فيها من المنافع فإنه تعالى خص كل جانب من الأرض بنوع من الأمتعة ، فإذا نقل متاع هذا الجانب إلى الجانب الآخر في السفن وبالعكس حصلت المنافع العظيمة بالتجارة ، فلهذه الأسباب ذكر الله تعالى حال هذه السفن{[49371]} .


[49357]:في النسختين وأما الوقف، وفي ب فإثباتها ووجدت الوصل والوقف في الرازي 27/174 وفي السبعة غير ذلك. قال ابن مجاهد: قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بياء في الوصل. انظر السبعة 581 والإتحاف 383.
[49358]:هو مسيل الوادي لا نبت فيه.
[49359]:كل ما فيه سواد وبياض وغلب على الجبل ومن هنا ساغ حذف الموصوف فقد استعملا استعمال الأسماء انظر اللسان بطح وبرق 262 و299.
[49360]:الدر المصون 4/757.
[49361]:انظر التبيان 1134.
[49362]:من تمام البسيط في رثاء أخيها صخر، وشاهده: علم ي رأسه فهو بمعنى الجبل مفرقا لأعلام. وانظر الدر المصون 4/757 والجامع للقرطبي 16/32، ولسان العرب علم 3084 و3085 وديوانها 49.
[49363]:الباء زيادة من ب.
[49364]:زيادة من أ.
[49365]:زيادة من ب.
[49366]:في ب تشبهه.
[49367]:قاله الألوسي في روح المعاني 25/42.
[49368]:من الياء.
[49369]:سقطت من ب.
[49370]:كذلك.
[49371]:الرازي 27/175.