بعد كل ذلك انتقل القرآن إلى الكلام فى مسألة كثر فيها الجدل بين المسلمين والمشركين ، وهى مسألة الذبائح ما ذكر عليه اسم الله منها وما لم يذكر فقال - تعالى - : { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ . . . . } .
روى أبو داود بسنده عن ابن عباس قال : أتى ناس إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا رسول الله إنا نأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله - فأنزل الله - { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ } . إلى قوله { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } .
وذكر الواحدى أن المشركين قالوا : يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها فقال الله قتلها . قالوا : فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر أو الكلاب حلال وما قتله الله حرام فأنزل الله - تعالى - قوله : { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ } الآية .
والخطاب فى الآية الكريمة للمؤمنين الذين ضايقهم جدال المشركين لهم فى شأن الذبائح .
والمعنى كلوا أيها المؤمنون مما ذكر اسم الله عليه عند ذبحه واتركوا ما ذكر عليه اسم غيره كالأوثان أو ما ذبح على النصب ، أو ما ذكر اسم مع اسمه - تعالى - أو ما مات حتف أنفه ، ولا تضرنكم مخالفتكم للمشركين فى ذلك فإنهم ما يتبعون فى عقائدهم ومآكلهم وأعمالهم إلا تقاليد الجاهلية وأوهامها التى لا ترتكز على شىء من الحق .
والفاء فى قوله : { فَكُلُواْ } يرى الزمخشرى أنها جواب لشرط مقدر والتقدير : إن كنتم محقين فى الإيمان فكلوا ، ويرى غيره أنها معطوفة على محذوف والتقدير " كونوا على الهدى فكلوا " .
وقوله : { إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } أى : إن كنتم بآياته التى من جملتها الآيات الواردة فى هذا الشأن مؤمنين ، فإن الإيمان بها يقتضى استباحة ما أحله سبحانه واجتناب ما حرمه .
بعد هذا التمهيد التقريري الطويل تجيء قضية الذبائح ، مبنية على القاعدة الأساسية التي أقامها ذلك التمهيد التقريري الطويل :
فكلوا مما ذكر اسم الله عليه . . إن كنتم بآياته مؤمنين . . وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم - إلا ما اضطررتم إليه - وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم ، إن ربك هو أعلم بالمعتدين . وذروا ظاهر الإثم وباطنه ، إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون . ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه - وإنه لفسق - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون . .
وقبل أن ندخل في تفصيل هذه الأحكام من الناحية الفقهية ، يهمنا أن نبرز المبادئ الأساسية الإعتقادية التي تقررها .
إنه يأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه . والذكر يقرر الوجهة ويحدد الاتجاه . ويعلق إيمان الناس بطاعة هذا الأمر الصادر إليهم من الله :
( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه . . إن كنتم بآياته مؤمنين ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكُلُواْ مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين به وبآياته : فكلوا أيها المؤمنون مما ذكيتم من ذبائحكم وذبحتموه الذبح الذي بينت لكم أنه تحلّ به الذبيحة لكم ، وذلك ما ذبحه المؤمنون بي من أهل دينكم دين الحقّ ، أو ذبحه من دان بتوحيدي من أهل الكتاب ، دون ما ذبحه أهل الأوثان ومن لا كتاب له من المجوس . { إنْ كُنْتُمْ بآياتِهِ مُؤْمِنِينَ }يقول : إن كنتم بحجج الله التي أتتكم وإعلامه بإحلال ما أحللت لكم وتحريم ما حرّمت عليكم من المطاعم والمآكل مصدّقين ، ودعوا عنكم زخرف ما توحيه الشياطين بعضها إلى بعض من زخرف القول لكم وتلبيس دينكم عليكم غرورا .
وكان عطاء يقول في ذلك ما حدثنا به محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : قوله : { فَكُلُوا مِمّا ذُكرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ } قال : يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح ، وكلّ شيء يدلّ على ذكره يأمر به .
هذا تخلّص من محاجّة المشركين وبيان ضلالهم ، المذيَّل بقوله : { إنّ ربّك هو أعلم من يضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } [ الأنعام : 117 ] . انتقل الكلام من ذلك إلى تبيين شرائع هدى للمهتدين ، وإبطالِ شرائع شَرَعها المضلّون ، تبيينا يزيل التّشابه والاختلاط . ولذلك خللت الأحكام المشروعة للمسلمين ، بأضدادها الّتي كان شرعها المشركون وسلَفُهم .
وما تُشعر به الفاء من التفريع يقضي باتّصال هذه الجملة بالَّتي قبلها ، ووجه ذلك : أنّ قوله تعالى : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله } [ الأنعام : 116 ] تضمّن إبطال ما ألقاه المشركون من الشّبهة على المسلمين : في تحريم الميتة ، إذ قالوا للنّبيء صلى الله عليه وسلم « تزعم أن ما قتلتَ أنت وأصحابك وما قتل الكلب والصّقر حلال أكلُه ، وأنّ ما قتل اللَّهُ حرام » وأنّ ذلك ممّا شمله قوله تعالى : { وإن هم إلاّ يَخْرصون } [ الأنعام : 116 ] ، فلمّا نهى الله عن اتِّباعهم ، وسمّى شرائعهم خرصاً ، فرّع عليه هنا الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه ، أي عند قتله ، أي ما نُحر أو ذُبح وذُكر اسم الله عليه ، والنّهيَ عن أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه ، ومنه الميتة ، فإنّ الميتة لا يذكر اسم الله عليها ، ولذلك عقبت هذه الآية بآية : { وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائِهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون } [ الأنعام : 121 ] . فتبيّن أنّ الفاء للتّفريع على معلوم من المراد من الآية السّابقة .
والأمر في قوله : { فكلوا } للإباحة . ولمّا لم يكن يخطر ببال أحد أنّ ما ذُكر اسم الله عليه يحرم أكلُه ، لأنّ هذا لم يكن معروفاً عند المسلمين ، ولا عند المشركين ، علم أنّ المقصود من الإباحة ليس رفع الحرج ، ولكن بيان ما هو المباح ، وتمييزه عن ضدّه من الميتة وما ذبح على النُّصُّب . والخطاب للمسلمين .
وقوله : { مما ذكر اسم الله عليه } دلّ على أنّ الموصول صادق على الذّبيحة ، لأنّ العرب كانوا يذكرون عند الذّبح أو النّحر اسم المقصود بتلك الذكاة ، يجهرون بذكر اسمه ، ولذلك قيل فيه : أُهِلّ به لغير الله ، أي أُعلن . والمعنى كلوا المذكّى ولا تأكلوا الميتة . فما ذُكر اسم الله عليه كناية عن المذبوح لأنّ التّسمية إنَّما تكون عند الذّبح .
وتعليق فعل الإباحة بما ذكر اسم الله عليه ؛ أفهم أنّ غير ما ذكر اسم الله عليه لا يأكله المسلمون ، وهذا الغير يساوي معناه معنى ما ذكر اسمُ غير الله عليه ، لأنّ عادتهم أن لا يذبحوا ذبيحة إلاّ ذكروا عليها اسم الله ، إن كانت هديا في الحجّ ، أو ذبيحة للكعبة ، وإن كانت قرباناً للأصنام أو للجنّ ذكروا عليها اسم المتقرّب إليه . فصار قوله : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } مفيداً النّهي عن أكل ما ذُكر اسم غير الله عليه ، والنّهي عمّا لم يذكر عليه اسم الله ولا اسم غير الله ، لأنّ ترك ذكر اسم الله بينهم لا يكون إلاّ لقصد تجنّب ذكره .
وعلم من ذلك أيضاً النّهي عن أكل الميتة ونحوها ، ممّا لم تقصد ذكاته ، لأنّ ذكر اسم الله أو اسم غيره إنَّما يكون عند إرادة ذبح الحيوان . كما هو معروف لديهم ، فدلت هذه الجملة على تعيين أكل ما ذكّي دون الميتة ، بناء على عرف المسلمين لأنّ النّهي موجّه إليهم . وممّا يؤيّد ذلك : ما في « الكشاف » ، أنّ الفقهاء تأوّلوا قوله الآتي : " ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه " بأنَّه أراد به الميتة ، وبناء على فهم أن يَكون قد ذُكر اسم الله عليه عند ذكاته دون ما ذكر عليه اسم غير الله ، أخذا من مقام الإباحة والاقتصارِ فيه على هذا دون غيره ، وليس في الآية صيغة قصر ، ولا مفهوم مخالفة ، ولكن بعضها من دلالة صريح اللّفظ ، وبعضها من سياقه ، وهذه الدّلالة الأخيرة من مستتبعات التّراكيب المستفادة بالعقل الّتي لا توصف بحقيقة ولا مجاز . وبهذا يُعلم أن لا علاقة للآية بحكم نسيان التّسمية عند الذّبح ، فإنّ تلك مسألة أخرى لها أدلَّتها وليس من شأن التّشريع القرآني التعرّض للأحوال النّادرة .
و« على » للاستعلاء المجازي ، تدلّ على شدّة اتَّصال فعل الذّكر بذات الذّبيحة ، بمعنى أن يذكر اسم الله عليها عند مباشرة الذّبح لا قبله أو بعده .
وقوله : { إن كنتم بآياته مؤمنين } تقييد للاقتصار المفهوم : من فعل الإباحة ، وتعليققِ المجرور به ، وهو تحريض على التزام ذلك ، وعدم التّساهل فيه ، حتّى جعل من علامات كون فاعله مؤمناً ، وذلك حيث كان شعارُ أهل الشّرك ذكرَ اسم غير الله على معظم الذّبائح .
فأمّا ترك التّسمية : فإن كان لقصد تجنّب ذكر اسم الله فهو مساو لذكر اسم غير الله ، وإن كان لسهو فحكمه يُعرف من أدلّة غير هذه الآية ، منها قوله تعالى : { ربَّنا لا تؤاخذنا إن نسينا } [ البقرة : 286 ] وأدلّة أخرى من كلام النّبيء صلى الله عليه وسلم