والله المالك لما في السماء والأرض ، غني عما في السماء والأرض . وهو يرزق الأحياء بالماء والنبات ، وهو الغني عنهم وعما يرزقون :
( وإن الله لهو الغني الحميد ) .
فما به سبحانه من حاجة إلى من في السماء والأرض ، أو ما في السماء والأرض فهو الغني عن الجميع . . وهو المحمود على آلائه ، المشكور على نعمائه ، المستحق للحمد من الجميع .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ } .
يقول تعالى ذكره : له مُلك ما في السموات وما في الأرض من شيء هم عبيده ومماليكه وخلقه ، لا شريك له في ذلك ولا في شيء منه ، وإن الله هو الغنيّ عن كل ما في السموات وما في الأرض من خلقه وهم المحتاجون إليه ، الحميد عند عباده في إفضاله عليهم وأياديه عندهم .
الجملة خبر ثان عن اسم الجلالة في قوله : { إن الله لطيف خبير } [ الحج : 63 ] للتنبيه على اختصاصه بالخالقية والملك الحقّ ليعلم من ذلك أنه المختصّ بالمعبودية فيرد زعم المشركين أنّ الأصنام له شركاء في الإلهية وصرف عبادتهم إلى أصنامهم ، والمناسبة هي ذكر إنزال المطر وإنبات العشب فما ذلك إلا بعض ما في السماوات وما في الأرض .
وإنما لم تعطف الجملة على التي قبلها مع اتحادهما في الغرض لأن هذه تتنزّل من الأولى منزلة التذييل بالعموم الشامل لما تضمنته الجملة التي قبلها ، ولأن هذه لا تتضمن تذكيراً بنعمة .
وجملة { إن الله لهو الغني الحميد } عطف على جملة { له ما في السماوات وما في الأرض } . وتقديم المجرور للدلالة على القصر . أي له ذلك لا لغيره من أصنامكم ، إن جعلتَ القصر إضافياً ، أو لعدم الاعتداد بغنى غيره ومحموديته إن جعلت القصر ادعائياً .
ونبه بوصف الغنى على أنه غير مفتقر إلى غيره ، وهو معنى الغِنَى في صفاته تعالى أنه عدم الافتقار بذاته وصفاته لا إلى محلّ ولا إلى مخصّص بالوجود دون العدم والعكس تنبيهاً على أنّ افتقار الأصنام إلى من يصنعها ومن ينقلها من مكان إلى آخر ومن ينفض عنها القتام والقذر دليل على انتفاء الإلهية عنها .
وأما وصف { الحميد } بِمعنى المحمود كثيراً ، فذكره لمزاوجة وصف الغِنى لأن الغني مفيض على الناس فهم يحمدونه .
وفي ضمير الفصل إفادة أنه المختص بوصف الغنى دون الأصنام وبأنه المختص بالمحمودية فإن العرب لم يكونوا يوجّهون الحمد لغير الله تعالى . وأكد الحصرُ بحرف التوكيد وبلام الابتداء تحقيقاً لنسبة القصر إلى المقصور كقول عمرو بن معد يكرب : « إني أنا الموت » . وهذا التأكيد لتنزيل تحققهم اختصاصه بالغنى أو المحمودية منزلة الشك أو الإنكار لأنهم لم يجروا على موجِب علمهم حين عبدوا غيره وإنما يعبد من وصفه الغنى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{له ما في السماوات وما في الأرض} عبيده، وفي ملكه {وإن الله لهو الغني} عن عبادة خلقه {الحميد} عند خلقه في سلطانه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: له مُلك ما في السموات وما في الأرض من شيء هم عبيده ومماليكه وخلقه، لا شريك له في ذلك ولا في شيء منه، وإن الله هو الغنيّ عن كل ما في السموات وما في الأرض من خلقه وهم المحتاجون إليه، الحميد عند عباده في إفضاله عليهم وأياديه عندهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعناه إن له التصرف في جميع ذلك لا اعتراض عليه. وأخبر "إن الله هو الغني الحميد "فالغني هو الحي الذي ليس بمحتاج، فهو تعالى المختص بأنه لو بطل كل شيء سواه لم تبطل نفسه القادرة العالمة. الذي لا يجوز عليه الحاجة بوجه من الوجوه، وكل شيء سواه يحتاج إليه، لأنه لولاه لبطل، لأنه لا يخلو من مقدوره أو مقدور مقدوره. و (الحميد) معناه الذي يستحق الحمد على أفعاله، وهو بمعنى أنه محمود.
والمعنى أن كل ذلك منقاد له غير ممتنع من التصرف فيه وهو غني عن الأشياء كلها وعن حمد الحامدين أيضا لأنه كامل لذاته، والكامل لذاته غني عن كل ما عداه في كل الأمور،... وإذا كان كذلك كان إنعامه خاليا عن غرض عائد إليه فكان مستحقا للحمد. فكأنه قال إنه لكونه غنيا لم يفعل ما فعله إلا للإحسان، ومن كان كذلك كان مستحقا للحمد فوجب أن يكون حميدا. فلهذا قال: {وإن الله لهو الغني الحميد}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما اقتضى ذلك أنهى التصرف، لأنه لا بد بعد اختلاط الماء بالتراب من أمور ينشأ عنها النبات، على تلك الهيئات الغريبة المختلفة، فأوجب ذلك أن يكون هو المالك المطلق، قال: {له ما في السماوات} أي التي أنزل منها الماء، ولما كان السباق لإثبات البعث والانفراد بالملك والدلالة على ذلك، اقتضى الحال التأكيد بإعادة الموصول فقال: {وما في الأرض} أي التي استقر فيها، وذلك يقتضي ملك السماوات والأرضين، فإن كل واحدة منها في التي فوقها حتى ينتهي الأمر إلى عرشه سبحانه الذي لا يجوز أصلاً أن يكون لغيره.
ولما كان من المألوف عندنا أن المالك فقير إلى ما في يده؛ مذموم على إمساكه بالتقتير، وعلى بذله بالتبذير، بين أنه بخلاف ذلك فقال: {وإن الله} أي الذي له الإحاطة التامة {لهو} أي وحده {الغني} أي عنهما وعما فيهما، ما خلق شيئاً منهما أو فيهما لحاجة له إليه بل لحاجتكم أنتم إليه {الحميد} في كل ما يعطيه أو يمنعه، لما في ذلك من الحكم الخفية والجلية.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وما في الْأَرْضِ} خلقا وعبيدا، يتصرف فيهم بملكه وحكمته وكمال اقتداره، ليس لأحد غيره من الأمر شيء. {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ} بذاته الذي له الغنى المطلق التام، من جميع الوجوه، ومن غناه، أنه لا يحتاج إلى أحد من خلقه، ولا يواليهم من ذلة، ولا يتكثر بهم من قلة، ومن غناه، أنه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، ومن غناه، أنه صمد، لا يأكل ولا يشرب، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلق بوجه من الوجوه، فهو يطعم ولا يطعم، ومن غناه، أن الخلق كلهم مفتقرون إليه، في إيجادهم، وإعدادهم وإمدادهم، وفي دينهم ودنياهم، ومن غناه، أنه لو اجتمع من في السماوات ومن في الأرض، الأحياء منهم والأموات، في صعيد واحد، فسأل كل منهم ما بلغت أمنيته، فأعطاهم فوق أمانيهم، ما نقص ذلك من ملكه شيء، ومن غناه، أن يده سحاء بالخير والبركات، الليل والنهار، لم يزل إفضاله على الأنفاس، ومن غناه وكرمه، ما أودعه في دار كرامته، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر...
{الْحَمِيدِ} أي: المحمود في ذاته، وفي أسمائه، لكونها حسنى، وفي صفاته، لكونها كلها صفات كمال، وفي أفعاله، لكونها دائرة بين العدل والإحسان والرحمة والحكمة وفي شرعه، لكونه لا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة، الذي له الحمد، الذي يملأ ما في السماوات والأرض، وما بينهما، وما شاء بعدها، الذي لا يحصي العباد ثناء على حمده، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده، وهو المحمود على توفيق من يوفقه، وخذلان من يخذله، وهو الغني في حمده، الحميد في غناه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والله المالك لما في السماء والأرض، غني عما في السماء والأرض. وهو يرزق الأحياء بالماء والنبات، وهو الغني عنهم وعما يرزقون:... (وإن الله لهو الغني الحميد). فما به سبحانه من حاجة إلى من في السماء والأرض، أو ما في السماء والأرض فهو الغني عن الجميع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اختصاصه بالخالقية والملك الحقّ ليعلم من ذلك أنه المختصّ بالمعبودية فيرد زعم المشركين أنّ الأصنام له شركاء في الإلهية وصرف عبادتهم إلى أصنامهم، والمناسبة هي ذكر إنزال المطر وإنبات العشب فما ذلك إلا بعض ما في السماوات وما في الأرض...
ونبه بوصف الغنى على أنه غير مفتقر إلى غيره، وهو معنى الغِنَى في صفاته تعالى أنه عدم الافتقار بذاته وصفاته لا إلى محلّ ولا إلى مخصّص بالوجود دون العدم والعكس تنبيهاً على أنّ افتقار الأصنام إلى من يصنعها ومن ينقلها من مكان إلى آخر ومن ينفض عنها القتام والقذر دليل على انتفاء الإلهية عنها. وأما وصف {الحميد} بِمعنى المحمود كثيراً، فذكره لمزاوجة وصف الغِنى لأن الغني مفيض على الناس فهم يحمدونه. وفي ضمير الفصل إفادة أنه المختص بوصف الغنى دون الأصنام وبأنه المختص بالمحمودية فإن العرب لم يكونوا يوجّهون الحمد لغير الله تعالى. وأكد الحصرُ بحرف التوكيد وبلام الابتداء تحقيقاً لنسبة القصر إلى المقصور... وهذا التأكيد لتنزيل تحققهم اختصاصه بالغنى أو المحمودية منزلة الشك أو الإنكار لأنهم لم يجروا على موجِب علمهم حين عبدوا غيره وإنما يعبد من وصفه الغنى.
فما في السماوات وما في الأرض ملك لله تعالى، ومع ذلك لا ينتفع منها الحق سبحانه بشيء، إنما خلقها لمنفعة خلقه، وهو سبحانه غني عنها وغني عنهم، وبصفات الكمال فيه سبحانه خلق ما في السماوات وما في الأرض، لذلك قال بعدها: {وإن الله لهو الغني الحميد}. وصفات الكمال في الله تعالى موجودة قبل أن يخلق الخلق، وبصفات الكمال خلق، وملكيته تعالى للسماوات وللأرض، ولما فيهما ملكية للظرف وللمظروف، ونحن لا نملك السماوات، ولا نملك الأرض، إنما نملك ما فيهما من خيرات ومنافع مما ملكنا الله له، فهو الغني سبحانه، المالك لكل شيء، وما ملكنا إلا من باطن ملكه. والحميد: يعني المحمود، فهو غني محمود، لأن غناه لا يعود عليه سبحانه، إنما يعود على خلقه، فيحمدونه لغناه، لا يحقدون عليه، ومن العجيب أن الحق سبحانه يملك خلقه من ملكه، فمن استخدم النعمة فيما جعلت له، ومن أعطى غير القادر من نعمة الله عليه يشكر الله له، وهي في الأصل نعمته. ذلك لأنك أنت عبده، وقد استدعاك للوجود، وعليه سبحانه أن يتولاك ويرعاك...