ثم بين - سبحانه - ما ترتب على اعتزال إبراهيم للشرك والمشركين فقال : { فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } .
أى : فحين اعتزل إبراهيم - عليه السلام - أباه وقومه وآلهتهم الباطلة . لم نضيعه ، وإنما أكرمنا وتفضلنا عليه بأن وهبنا له إسحاق ويعقوب ليأنس بهما بعد أن فارق أباه وقومه من أجل إعلاء كلمتنا { وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } أى : وكل واحد منهما جعلناه نبياً { وَوَهَبْنَا لَهْمْ } أى : لإبراهيم وإسحاق ويعقوب { مِّن رَّحْمَتِنَا } بأن جعلناهم أنبياء ومنحناهم الكثير من فضلنا وإحسانا ورزقنا .
وجعلنا لهم لسان صدق عليا ، بأن صيرنا الناس يثنون عليهم ويمدحونهم ويذكرونهم بالذكر الجميل ، لخصالهم الحميدة ، وأخلاقهم الكريمة .
وهكذا نرى أن اعتزال الشرك والمشركين ، والفسق والفاسقين ، يؤدى إلى السعادة الدينية والدنيوية ، وما أصدق قوله - تعالى - : { فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } .
وخص - سبحانه - هنا اسحق ويعقوب بالذكر دون إسماعيل لأن إسماعيل سيذكر فضله بعد قليل .
وهكذا اعتزل إبراهيم أباه وقومه وعبادتهم وآلهتهم وهجر أهله ودياره ، فلم يتركه الله وحيدا . بل وهب له ذرية وعوضه خيرا :
( فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب . وكلا جعلنا نبيا . ووهبنا لهم من رحمتنا ، وجعلنا لهم لسان صدق عليا ) . .
وإسحاق هو ابن إبراهيم ، رزقه من سارة - وكانت قبله عقيما - ويعقوب هو ابن إسحاق : ولكنه يحسب ولدا لإبراهيم لأن إسحاق رزقه في حياة جده ، فنشأ في بيته وحجره ، وكان كأنه ولده المباشر ؛ وتعلم ديانته ولقنها بنيه . وكن نبيا كأبيه .
يقول : فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله ، أبدله الله من هو خير منهم ، ووهب له إسحاق ويعقوب ، يعني ابنه وابن إسحاق ، كما قال في الآية الأخرى : { وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] ، وقال : { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] .
ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب ، وهو نص القرآن في سورة البقرة : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] . ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوب ، أي : جعلنا له نسلا وعقبا أنبياء ، أقر الله بهم عينه في حياته ؛ ولهذا قال : { وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا } ، فلو لم يكن يعقوب قد نُبئ في حياة إبراهيم ، لما اقتصر عليه ، ولذكر ولده يوسف ، فإنه نبي أيضًا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته ، حين سئل عن خير الناس ، فقال : " يوسف نبي الله ، ابن يعقوب نبي الله ، ابن إسحاق نبي الله ، ابن إبراهيم خليل الله " {[18870]} وفي اللفظ الآخر : " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسفُ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " {[18871]}
القول في تأويل قوله تعاله : { فَلَمّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاّ جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : فلما اعتزل إبراهيم قومه وعبادة ما كانوا يعبدون من دون الله من الأوثان آنسنا وحشته من فراقهم ، وأبدلناه منهم بمن هو خير منهم وأكرم على الله منهم ، فوهبنا له ابنه إسحاق ، وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكُلاّ جَعَلْنا نَبِيّا يقول : وجعلناهم كلهم ، يعني بالكلّ إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنبياء وقال تعالى ذكره : وكُلاّ جَعَلْنا نَبِيّا فوحد ، ولم يقل أنبياء ، لتوحيد لفظ كلّ
{ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله } بالهجرة إلى الشام . { وهبنا له إسحق ويعقوب } بدل من فارقهم من الكفرة ، قيل أنه لما قصد الشام أتى أولا حران وتزوج بسارة وولدت له إسحق وولد منه يعقوب ، ولعل تخصيصها بالذكر لأنهما شجرتا الأنبياء أو لأنه أراد أن يذكر إسماعيل بفضله على الانفراد { وكلا جعلنا نبيا } وكلا منهما أو منهم .