ثم تترك السورة الكريمة هؤلاء المجرمين يذوقون العذاب ، وتنتقل إلى الحديث عن مشهد آخر ، عن مشهد يشرح النفوس ، ويبهج القلوب ، إنه مشهد المؤمنين الصادقين ، وما أعد الله - تعالى - من ثواب قال - تعالى - : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا . . . بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
أى : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ } ويصدق { بِآيَاتِنَا } الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا ، أصحاب النفوس النقية الصافية ، الذين إذ ذكروا بها ، أى : بهذه الآيات .
{ خَرُّواْ سُجَّداً } لله - تعالى - من غير تردد { وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } أى : ونزهوه عن كل ما لا يليق به - عز وجل -
{ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } عن طاعته - سبحانه - ، وعن الانقياد لأمره ونهيه .
يسدل الستار على ذلك المشهد ليرفعه عن مشهد آخر ، في ظل آخر ، وفي جو آخر ، له عطر آخر تستروح له الأرواح وتخفق له القلوب . إنه مشهد المؤمنين . مشهدهم خاشعين مخبتين عابدين ، داعين إلى ربهم وقلوبهم راجفة من خشية الله ، طامعة راجية في فضل الله . وقد ذخر لهم ربهم من الجزاء ما لا يبلغ إلى تصوره خيال :
( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم ، وهم لا يستكبرون . تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، يدعون ربهم خوفا وطمعا ، ومما رزقناهم ينفقون . فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ، جزاء بما كانوا يعملون ) . .
وهي صورة وضيئة للأرواح المؤمنة ، اللطيفة ، الشفيفة الحساسة المرتجفة من خشية الله وتقواه ، المتجهة إلى ربها بالطاعة المتطلعة إليه بالرجاء ، في غير ما استعلاء ولا استكبار . هذه الأرواح هي التي تؤمن بآيات الله ، وتتلقاها بالحس المتوفز والقلب المستيقظ والضمير المستنير .
هؤلاء إذا ذكروا بآيات ربهم ( خروا سجدا )تأثرا بما ذكروا به ، وتعظيما لله الذي ذكروا بآياته ، وشعورا بجلاله الذي يقابل بالسجود أول ما يقابل ، تعبيرا عن الإحساس الذي لا يعبر عنه إلا تمريغ الجباه بالتراب ( وسبحوا بحمد ربهم ) . مع حركة الجسد بالسجود . ( وهم لا يستكبرون ) . . فهي استجابة الطائع الخاشع المنيب الشاعر بجلال الله الكبير المتعال .
يقول تعالى : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا } أي : إنما يصدق بها { الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا } أي : استمعوا لها وأطاعوها قولا وفعلا { وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } [ أي ]{[23082]} عن اتباعها والانقياد لها ، كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة ، [ وقد ]{[23083]} قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرّواْ سُجّداً وَسَبّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ما يصدق بحججنا وآيات كتابنا إلاّ القوم الذين إذا ذكروا بها ووعظوا خرّوا لله سجدا لوجوههم ، تذلّلاً له ، واستكانة لعظمته ، وإقرارا له بالعبوديّة وَسَبّحُوا بِحَمْدِ رَبّهِمْ يقول : وسبحوا الله في سجودهم بحمده ، فيبرّؤونه مما يصفه أهل الكفر به ، ويضيفون إليه من الصاحبة والأولاد والشركاء والأنداد وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يقول : يفعلون ذلك ، وهم لا يستكبرون عن السجود له والتسبيح ، لا يستنكفون عن التذلّل له والاستكانة . وقيل : إن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن قوما من المنافقين كانوا يخرجون من المسجد إذا أقيمت الصلاة ، ذُكر ذلك عن حجاج ، عن ابن جُرَيج .
ثم أثنى عز وجل على القوم الذين يؤمنون بآياته ووصفهم بالصفة الحسنى بسجودهم عند التذكير وتسبيحهم وعدم استكبارهم بخلاف ما يصنع الكفر من الإعراض عند التذكير وقول الهجر وإظهار التكبر . وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن ، وقال ابن عباس : السجود هنا بمعنى الركوع ، وقد روي عن ابن جريج ومجاهد أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من المسجد فكان الركوع يقصد من هذا ، ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ، وأيضاً فمن مذهب ابن عباس أن القارىء للسجدة يركع واستدل بقوله { وخر راكعاً وأناب }{[9423]} [ ص : 24 ] .