وقوله - سبحانه - { إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تحذير آخر لهم ، إثر التحذير من الإِعراض عما جاهءم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .
والمرجع : مصدر ميمى بمعنى الرجوع الذى لا انفكاك لهم منه ، ولا محيد لهم عنه .
أى : إلى الله - تعالى - وحده رجوعكم مهما طالت حياتكم ، ليحاسبكم على أعمالكم ، ويجازيكم عليها بما تستحقونه من جزاء ، وهو - سبحانه - على كل شيء قدير ، لا يعجزه أمر ولا يحول بينه وبين نفاذ إرادته حائل .
وما دام الأمر كذلك ، فأخلصوا لله العبادة ، واستغفروا ثم توبوا إليه لتظفروا بالسعادة العاجلة والآجلة .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : إلى الله أيها القوم ما بكم ومصيركم ، فاحذروا عقابه إن توليتم عما أدعوكم إليه من التوبة إليه من عبادتكم الاَلهة والأصنام ، فإنه مخلدكم نار جهنم إن هلكتم على شرككم قبل التوبة إليه . وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول : وهو على إحيائكم بعد مماتكم ، وعقابكم على إشراككم به الأوثان وغير ذلك مما أراد بكم وبغيركم قادر .
جملة في موضع التعليل للخوف عليهم ، فلذلك فصلت . والمعنى : أنكم صائرون إلى الله ، أي إلى قدرته غير منفلتين منه فهو مجازيكم على تولّيكم عن أمره .
فالمرجع : مصدر ميمي بمعنى الرجوع . وهو مستعمل كناية عن لازمه العرفي وهو عدم الانفلات وإن طال الزمن ، وذلك شامل للرجوع بعد الموت . وليس المراد إياه خاصة لأن قوله : { وهو على كل شيء قدير } أنسب بالمصير الدنيوي لأنه المسلّم عندهم ، وأما المصير الأخروي فلو اعترفوا به لما كان هنالك قوي مقتض لزيادة { وهو على كل شيء قدير } .
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام والتقوي ، وليس المراد منه الحصر إذ هم لا يحسبون أنهم مرجعون بعد الموت بله أن يرجعوا إلى غيره .
وجملة : { وهو على كل شيء قدير } معطوفة على جملة : { إلى الله مرجعكم } ، أي فما ظنكم برجوعكم إلى القادر على كل شيء وقد عصيتُم أمره أليس يعذبكم عذاباً كبيراً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ} في الآخِرة لا يغادر منكم أحدٌ، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من البعث وغيرِه، {قَدِيرٌ}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: (إلى الله)، أيها القوم، مآبكم ومصيركم، فاحذروا عقابه إن توليتم عما أدعوكم إليه من التوبة إليه من عبادتكم الآلهة والأصنام، فإنه مخلدكم نارَ جهنم إن هلكتم على شرككم قبل التوبة إليه. (وهو على كل شيء قدير)، يقول: وهو على إحيائكم بعد مماتكم، وعقابكم على إشراككم به الأوثانَ وغير ذلك مما أراد بكم وبغيركم قادرٌ.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تنقطِع الدَّعاوَى عند الرجوع إلى الله، وتَنتفي الظّنونُ، ويَحصُل اليأسُ من غير الله بكل وجهٍ، ويبقى العبدُ بنَعْتِ الاضطرار، والحقُّ يُجْرِي عليه ما سَبَقَتْ به القِسْمةُ من أنواع الأقدار...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{إلى الله مرجعكم} توعد، وهو يؤيد أن اليوم الكبير يوم القيامة لأنه توعد به، ثم ذكر الطريق إليه من الرجوع إلى الله، والمعنى إلى عقاب الله وجزائه لكم رجوعكم وهو القادر الذي لا يضره شيء ولا يجير عليه مجير ولا تنفع من قضائه واقية...
اعلم أن قوله: {إلى الله مرجعكم} فيه دقيقة، وهي: أن هذا اللفظ يفيد الحصر، يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره، فيدل هذا على أن لا مدبر ولا متصرف هناك إلا هو. والأمر كذلك أيضا في هذه الحياة الدنيوية، إلا أن أقواما اشتغلوا بالنظر إلى الوسائط فعجزوا عن الوصول إلى مسبب الأسباب، فظنوا أنهم في دار الدنيا قادرون على شيء، وأما في دار الآخرة، فهذا الحال الفاسد زائل أيضا، فلهذا المعنى بين هذا الحصر بقوله: {إلى الله مرجعكم}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
كأنهم قالوا: ما هذا اليومُ؟ فكان الجواب: يومَ يَرجعون إليه، ولمّا كانوا ربما حَملوا الرجوعَ على مجرد الموت والصَّيرورةِ تراباً، نبَّههم على أنه بغير المعنى الذي يتوهّمونه بل بمعنى إعادتِهم كما كانوا فقال: {إِلَى اللهِ} أي المَلِكِ المُحيطِ بكل شيءٍ قدرةً وعلماً وحده {مَرْجِعُكُمْ} أي رجوعُكم ووقتُه ومكانُه لأجل الحساب لا إلى التراب و لا غيرِه، وهو بكل شيءٍ عليمٌ، ومنه بَدْؤُكُم لأخذ الزاد للمَعاد، وجعل فاصلة الآية حكماً على المراد فقال: {وَهُوَ} أي وحده {علَى كُلِّ شَيْءٍ} أي ممكنٍ {قديرٌ} أي بالغُ القدرةِ لأنهم يُقِرّون بقدرته على أشياء هي أعظم من الإعادة، فهو قادر على الإعادة كما قَدَرَ على البَداءة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالمَرْجِعُ: مصدرٌ ميميٌّ بمعنى الرجوع. وهو مستعملٌ كنايةً عن لازمه العُرْفيّ وهو عدم الانفلات وإن طال الزمنُ، وذلك شاملٌ للرجوع بعد الموت. وليس المراد إيّاه خاصةً لأن قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أنسَبُ بالمصير الدنيويّ لأنه المُسَلَّم عندهم، وأمّا المصير الأخرويُّ فلو اعترفوا به لَمَا كان هنالك قويُّ مُقْتَضٍ لزيادةِ {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وتقديمُ المجرورِ على عامله للاهتمام والتّقَوِّي، وليس المراد منه الحَصْرَ إذ هم لا يحسبون أنهم مُرجَعون بعد الموت بَلْهَ أن يرجعوا إلى غيره. وجملةُ: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} معطوفةٌ على جملةِ: {إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ}، أي فما ظنُّكم برجوعكم إلى القادر على كل شيءٍ وقد عَصَيْتُم أمرَه أليس يعذِّبكم عذاباً كبيراً...
إلى الله مَرجِعُكم في الإيجاد والإمداد، والبداية والنهاية، وبدايةِ النهاية التي لا انتهاءَ معها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
واعلَموا أنَّ (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) كائناً من كنتم، وفي أي مَحَلٍّ ومَقامٍ أنتم، وهذه الجملة تشير إلى الأصل الخامس من الأصول التفصيليّةِ للقرآن وهي مسألة «المَعاد والبعث» ولكن لا تتصوَّروا أبداً أن قدرتكم تُعَدُّ شيئاً تُجَاهَ قدرةِ الله، أو أنّكم تستطيعون الفرار من أمره ومحكمةِ عدلِه.. ولا تتصوَّروا أيضاً أنّه لا يستطيع أن يَجمع عظامَكم النَّخِرَةَ بعد الموت ويَكْسُوَها ثوباً جديداً من الحياة.. (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)...