قوله تعالى : { قال سوف أستغفر لكم ربي } ، قال أكثر المفسرين : أخر الدعاء إلى السحر ، وهو الوقت الذي يقول الله تعالى : هل من داع فأستجيب له فلما انتهى يعقوب إلى الموعد قام إلى الصلاة بالسحر ، فلما فرغ منها رفع يديه إلى الله عز وجل وقال : اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لأولادي ما أتوا إلى أخيهم يوسف ، فأوحى الله تعالى إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين . وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : { سوف استغفر لكم ربي } يعني ليلة الجمعة . قال وهب : كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة . وقال طاووس : أخر الدعاء إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء . وعن الشعبي قال : { سوف أستغفر لكم ربي } ، قال : أسأل يوسف إن عفا عنكم أستغفر لكم ربي { إنه هو الغفور الرحيم } . روي أن يوسف كان قد بعث مع البشير إلى يعقوب مائتي راحلة وجهازا كثيرا ليأتوا بيعقوب وأهله وأولاده ، فتهيأ يعقوب للخروج إلى مصر ، فخرجوا وهم اثنان وسبعون من بين رجل وامرأة . وقال مسروق : كانوا ثلاثة وتسعين . فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه فخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجنود وركب أهل مصر معهما يتلقون يعقوب ، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا هذا فرعون مصر ، قال : لا هذا ابنك ، فلما دنا كل واحد من صاحبه ذهب يوسف يبدأ بالسلام ، فقال جبريل : لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام ، فقال يعقوب : السلام عليك يا مذهب الأحزان . وروي أنهما نزلا وتعانقا . وقال الثوري : لما التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكيا ، فقال يوسف : يا أبت بكيت حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا ؟ قال : بلى يا بني ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك { فلما دخلوا على يوسف آوى إليه } .
فكان رد أبيهم عليهم أن قال لهم : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي } أى : سوف أتضرع إلى ربى لكى يغفر لكم ذنوبكم .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { هُوَ الغفور } أى الكثير المغفرة { الرحيم } أى : الكثير الرحمة لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من عباده .
وهكذا صورت لنا السورة الكريمة ما دار بين يوسف وإخوته ، وبين يعقوب وبنيه في هذا اللقاء المثير الحافل بالمفاجآت والبشارات .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ يَأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّيَ إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : قال ولد يعقوب الذين كانوا فرّقوا بينه وبين يوسف : يا أبانا سل لنا ربك يعف عنا ويستر علينا ذنوبنا التي أذنبناها فيك وفي يوسف فلا يعاقبنا بها في القيامة إنّا كُنّا خاطِئِينَ فيما فعلنا به ، فقد اعترفنا بذنوبنا . قال : سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّي يقول جل ثناؤه : قال يعقوب : سوف أسأل ربي أن يعفو عنكم ذنوبكم التي أذنبتموها فيّ وفى يوسف .
ثم اختلف أهل التأويل في الوقت الذي أخر الدعاء إليه يعقوب لولده بالاستغفار لهم من ذنبهم ، فقال بعضهم : أخر ذلك إلى السحر . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الرحمن بن إسحاق ، يذكر ، عن محارب ابن دثار ، قال : كان عمّ لي يأتي المسجد ، فسمع إنسانا يقول : اللهمّ دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت ، وهذا سَحَرٌ ، فاغفر لي قال : فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود ، فسأل عبد الله عن ذلك ، فقال : إن يعقوب أخّر بنيه إلى السحر بقوله : سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّي .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن محارب بن دثار ، عن عبد الله بن مسعود : سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّي قال : أخرهم إلى السحر .
قال : حدثنا أبو سفيان الحميريّ ، عن العوام ، عن إبراهيم التيميّ في قول يعقوب لبنيه : سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّي قال : أخرهم إلى السّحر .
قال : حدثنا عمرو ، عن خلاد الصّفّار ، عن عمرو بن قيس : سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّي قال : في صلاة الليل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّي قال : أخرّ ذلك إلى السّحرَ .
وقال آخرون : أخّر ذلك إلى ليلة الجمعة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب الدمشقي ، قال : حدثنا الوليد ، قال : أخبرنا ابن جُريج ، عن عطاء وعكرمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّي يقول : «حَتّى تَأُتِيَ لَيْلَةُ الجُمُعَةِ . وهو قَوْلُ أخي يَعْقُوبَ لبَنِيهِ » .
حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي ، قال : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقيّ ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء وعكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قَدْ قالَ أخِي يَعْقُوبُ سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّي ، يَقُولُ : حتى تَأْتيَ لَيْلَةُ الجُمُعَة » .
وقوله : إنّهُ هُوَ الغَفُورُ الرّحِيمُ يقول : إن ربّي هو الساتر على ذنوب التائبين إليه من ذنوبهم الرحيم بهم أن يعذّبهم بعد توبتهم منها .
فقال لهم يعقوب : { سوف أستغفر } ، فقالت فرقة : َسَّوَفُهم إلى السحر ، وروي عن محارب بن دثار أنه قال : كان عم لي يأتي المسجد فسمع إنساناً يقول : اللهم دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت ، وهذا سحر فاغفر لي ، فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود ، فسئل عبد الله بن مسعود عن ذلك ، فقال : إن يعقوب عليه السلام أخر بنيه إلى السحر ، ويقوي هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : «ينزل ربنا كل ليلة إذا كان الثلث الآخر إلى سماء الدنيا فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ » الحديث{[6833]} ويقويه قوله تعالى : { والمستغفرين بالأسحار }{[6834]} [ آل عمران : 17 ] . وقالت فرقة : إنما سوفهم يعقوب إلى قيام الليل ، وقالت فرقة - منهم سعيد بن جبير - سوفهم يعقوب إلى الليالي البيض ، فان الدعاء فيهن يستجاب وقيل : إنما أخرهم إلى ليلة الجمعة ، وروى ابن عباس هذا التأويل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «أخرهم يعقوب حتى تأتي له الجمعة »{[6835]} .
ثم رجاهم يعقوب عليه السلام بقوله : { إنه هو الغفور الرحيم } .
إنما وعدهم بالاستغفار في المستقبل إذ قال : { سوف أستغفر لكم ربي } للدلالة على أنه يلازم الاستغفار لهم في أزمنة المستقبل . ويعلم منه أنه استغفر لهم في الحال بدلالة الفحوى ؛ ولكنه أراد أن ينبههم إلى عظم الذنب وعظمة الله تعالى وأنه سيكرر الاستغفار لهم في أزمنة مستقبلة . وقيل : أخّر الاستغفار لهم إلى ساعة هي مظنة الإجابة . وعن ابن عباس مرفوعاً أنه أخر إلى ليلة الجمعة ، رواه الطبري . وقال ابن كثير : في رفعه نظر .
وجملة { إنه هو الغفور الرحيم } في موضع التعليل لجملة { أستغفر لكم ربي } . وأكد بضمير الفصل لتقوية الخبر .