ثم بين - سبحانه - منزلة القرآن الكريم في إثباته للرسالة المحمدية عن طريق الإخبار بأحوال الأمم السابقة وبيان سوء عاقبة من كذب به ، فقال : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ . . . } .
قوله : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ } . . . إلخ .
التفصيل : عبارة عن جعل الحقائق والمسائل بيانها مفصولا بعضها عن بعض بحيث لا يبقى فيها اشتباه أو لبس .
والمعنى : ولقد جئنا لهؤلاء الناس على لسانك يا محمد بكتاب عظيم الشأن ، كامل التبيان ، فصلنا آياته تفصيلا حكيما ، وبينا فيه ما هم في حاجة إليه من أمور الدنيا والآخرة بيانا شافيا يؤدى إلى سعادتهم متى اتبعوه واهتدوا بهديه " .
والضمير لأولئك الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، وقيل هو لهم وللؤمنين ، والمراد بالكتاب : القرآن الكريم .
وقوله : { على عِلْمٍ } حال من فاعل " فصلناه " ، أى : فصلناه على أكمل وجه وأحسنه حالة كوننا عالمين بذلك أتم العلم .
فالمراد بهذه الجملة الكريمة بيان أن ما في هذا القرآن من أحكام وتفصيل وهداية ، لم يحصل عبثا ، وإنما حصل مع العلم التام بكل ما اشتمل عليه من فوائد متكاثرة ، ومنافع متزايدة .
وقرأ ابن محيص " فضلناه " بالضاد المعجمة . أى : فضلناه على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك .
وقوله : { هُدًى وَرَحْمَةً } حال من مفعول " فصلناه " وقرىء بالجر على البديلة من " علم " وبالرفع على إضمار المبتدأ ، أى : هو هدى عظيم ورحمة واسعة .
وقال : { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } لأنهم هم المنتفعون بهديه ، والمستجيبون لتوجيهاته
{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصّلْنَاهُ عَلَىَ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أقسم يا محمد لقد جئنا هؤلاء الكفرة بكتاب ، يعني القرآن الذي أنزله إليهم ، يقول : لقد أنزلنا إليهم هذا القرآن مفصلاّ مبينا فيه الحقّ من الباطل ، عَلى عِلْمٍ يقول : على علم منا بحقّ ما فصل فيه من الباطل الذي ميز فيه بينه وبين الحقّ ، هُدًى وَرَحْمَةً يقول : بيناه ليهتدي ويرحم به قوم يصدّقون به وبما فيه من أمر الله ونهيه وأخباره ووعده ووعيده ، فينقذهم به من الضلالة إلى الهدى . وهذه الاَية مردودة على قوله : كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى للمُؤْمِنينَ . وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصّلْناهُ على عِلْمٍ والهدى في موضع نصب على القطع من الهاء التي في قوله : فَصّلْناهُ ولو نُصب على فعل فصّلناه ، فيكون المعنى : فصّلنا الكتاب كذلك كان صحيحا ولو قرىء «هُدًى وَرَحْمَةٍ » كان فِي الإعراب فصيحا ، وكان خفض ذلك بالردّ على الكتاب .
{ ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه } بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصلة . { على علم } عالمين بوجه تفصيله حتى جاء حكيما ، وفيه دليل على أنه سبحانه وتعالى عالم بعلم ، أو مشتملا على علم فيكون حالا من المفعول . وقرئ " فضلناه " أي على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك . { هدى ورحمة لقوم يؤمنون } حال من الهاء .
وقوله تعالى : { ولقد جئناهم بكتاب } الآية ، ذكر ا?عذار إليهم إثر ذكر ما يفعل بهم واللام في قوله : { لقد } لام قسم والضمير في { جئناهم } لمن تقدم ذكره ، وقال يحيى بن سلام تم الكلام في { يجحدون } وهذا الضمير لمكذبي محمد صلى الله عليه وسلم ابتداء كلام آخر ، والمراد بالكتاب القرآن العزيز .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون اسم جنس في جميع الكتب المنزلة على تأويل من يرى الضمير في { جئناهم } لمن تقدم ذكره ، وقرأ جمهور الناس «فصلناه » من تفصيل الآيات وتبيينها ، وقرأ ابن محيصن «فضلناه » بضاد منقوطة ، و { على علم } معناه : عن بصيرة واستحقاق لذلك ، وقوله { هدى ورحمة } مصدران في موضع الحال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.