{ ألا تعبدوا إلا الله } لأن لا تعبدوا . وقيل أن مفسرة لان في تفصيل الآيات معنى القول ، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ للإغراء على التوحيد أو الأمر بالتبري من عبادة الغير كأنه قيل : ترك عبادة غير الله بمعنى الزموه أو اتركوها تركا . { إنني لكم منه } من الله . { نذير وبشير } بالعقاب على الشرك والثواب على التوحيد .
( أنْ ) تفسيرية لما في معنى { أحكمت آياتُه ثُم فصلت } [ هود : 1 ] من الدلالة على أقوال محكمة ومفصلة فكأنه قيل : أوحي إليك في هذا الكتاب أن لا تعبدوا إلا الله ، فهذه الجملة تفسيرية لما أحكم من الآيات لأن النهي عن عبادة غير الله وإيجاب عبادة الله هو أصل الدين ، وإليه مرجع جميع الصفات التي ثبتت لله تعالى بالدليل ، وهو الذي يتفرع عنه جميع التفاصيل ، ولذلك تكرر الأمر بالتوحيد والاستدلال عليه في القرآن ، وأن أول آية نزلت كان فيها الأمرُ بملابسة اسم الله لأول قراءة القرآن في قوله تعالى : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق : 1 ] .
والخطاب في { ألاَّ تعبدوا } وضمائر الخطاب التي بعده موجهة إلى الذين لم يؤمنوا وهم كل من يسمع هذا الكلام المأمور بإبلاغه إليهم .
وجملة : { إنني لكم منه نذير وبشير } معترضة بين جملة { ألا تعبدوا إلا الله } [ هود : 1 ] وجملة { وأن استغفروا ربكم } [ هود : 3 ] الآية ، وهو اعتراض للتحذير من مخالفة النهي والتحريض على امتثاله .
ووقوع هذا الاعتراض عقب الجملة الأولى التي هي من الآيات المحكمات إشعارٌ بأن مضمونه من الآيات المحكمات وإن لم تكن الجملة تفسيرية وذلك لأن شأن الاعتراض أن يكون مناسباً لما وقع بعده وناشئاً منه فإن مضمون البشير والنذير هو جامع عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في رسالته فهو بشير لمن آمن وأطاع ، ونذير لمن أعرض وعصى ، وذلك أيضاً جامع للأصول المتعلقة بالرسالة وأحوال الرسل وما أخبروا به من الغيب فاندرج في ذلك العقائد السمعية ، وهذا عين الإحكام .
و ( من ) في قوله : { إنني لكم منه } ابتدائية ، أي أني نذير وبشير لكم جائياً من عند الله .
والجمع بين النذارة والبشارة لمقابلة ما تضمنته الجملة الأولى من طلب ترك عبادة غير الله بطريق النهي وطلب عبادة الله بطريق الاستثناء ، فالنذارة ترجع إلى الجزء الأول ، والبشارة ترجع إلى الجزء الثاني .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم فصِّلَت بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له وتخلعوا الآلهة والأنداد. ثم قال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للناس: إنني لكم من عند الله "نذير "ينذركم عقابه على معاصيه وعبادة الأصنام، "وبشير" يبشركم بالجزيل من الثواب على طاعته وإخلاص العبادة والألوهة له.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ} فيه وجهان:
أحدهما: أن كتبت في الكتاب {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ}. الثاني: أنه أمر رسوله أن يقول للناس {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ}.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والنذارة: إعلام موضع المخافة ليتقى... والبشارة:إعلام بما يظهر في بشرة الوجه به المسرة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{إنني لكم منه نذير وبشير} أي من عقابه وبثوابه، وإذا أطلقت هاتان اللفظتان فالنذارة في المكروه والبشارة في المحبوب. وقدم النذير لأن التحذير من النار هو الأهم...
{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ}... اِعْلَمْ أن هذه الآية مشتمِلةٌ على التكليف من وجوهٍ:
الأول: أنه تعالى أمَر بأن لا يَعبدوا إلا اللهَ، وإذا قلنا: الاستثناء من النفي إثبات، كان معنى هذا الكلام النهيَ عن عبادة غيرِ الله تعالى، والأمرَ بعبادة الله تعالى، وذلك هو الحقُّ، لأنَّا بَيَّنَّا أن ما سوى الله فهو مُحْدَثٌ مخلوقٌ مربوبٌ، وإنما حصل بتكوين الله وإيجاده، والعبادةُ عبارة عن إظهار الخضوع والخشوع ونهايةِ التواضع، والتذلُّل وهذا لا يليق إلا بالخالق المُدبِّرِ الرّحيمِ المُحْسِنِ، فثَبَتَ أن عبادة غيرِ الله مُنْكَرَةٌ، والإعراضَ عن عبادة الله مُنْكَرٌ.
واعلمْ أن عبادة الله مشروطةٌ بتحصيل معرفة الله تعالى قبل العبادة، لأنّ مَن لا يَعرف معبودَه لا يَنتفِع بعبادته فكان الأمر بعبادة الله أمراً بتحصيل المعرفة أولا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أَلَّا تَعْبُدُوا} أي بوجهٍ من الوجوه {إلا اللهَ} أي الإلَهَ الأعظمَ...
ولَمّا كان هذا معظمَ ما أُرسل به صلى الله عليه وسلم ومدارَه، استأنف الإخبار بأنه أرسله سبحانه مؤكِّداً له لأجل إنكارهم فقال: {إِنَّنِي} ولمّا كان إرسالُه صلّى الله عليه وسلَّم لأجل رحمة العالَمين، قَدَّمَ ضميرَهم فقال: {لَكُمْ مِنْهُ} أي خاصّةً، ثم أَجْمَلَ القرآنُ كلُّه في وَصْفَيْه صلى الله عليه وسلم بقوله: مقدِّماً ما هو أنسَبُ لخِتام التي قبلها بالصبر: {نذيرٌ وبشيرٌ} كاملٌ في كلٍّ من الوصفين غايةَ الكمال... ويرجَّح أن "لا "ناهيةٌ جازمةٌ لـ {تَعْبُدُوا} عُطِفَ {أَنِ اسْتَغْفِرُوا} عليه، فقد ظهر من تلويح هذا وتصريحِه وتصريحِ ما في بقية السورة أن مقصودها وَصْفُ الكتاب بالإحكام والتفصيل بما يُعْجِزُ الخَلْقَ، لأنه من عند من هو شاملُ العلم كاملُ القدرة فهو بالغُ الحكمة يعيد الخَلق للجزاء كما بدأهم للعمل فوَجَبَ إفرادُه بالعبادة وأن يُمتثَل جميعُ أمرِه، ولا يُترَك شيءٌ منه رجاءَ إقبالِ أحدٍ ولا خوفَ إدبارِه، ولا يُخشى غيرُه، ولا يُركَن إلى سواه، على ذلك مضى جميعُ النبيين ودَرَجَ سائرُ المرسَلين صلى الله عليه وسلم أجمعين...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ألا تعبدوا إلا الله} هذا تفسير أو بيان لأول ما أحكمت وفصلت به وله الآيات-أي بأن لا تعبدوا إلا الله، أو لئلا تعبدوا إلا الله، وهو أن تجعلوا عبادتكم له وحده لا تشركوا به شيئا، وهذا ما تراه قريبا في قصص الرسل المفصلة في هذه السورة، ويؤيد الجمع بين طرفي التوحيد السلبي والإيجابي.
قوله تعالى: {إنني لكم منه نذير وبشير} وهو تبليغ لدعوة الرسالة مبين لوظيفة الرسول وهي إنذار من أصر على شركه وما يتبعه من الكفر والمعاصي بالعذاب الأليم، وتبشير من آمن واتقى بالسعادة والنعيم المقيم، وقدم الإنذار لأن الخطاب وجه أولا إلى المشركين كنظيره في سورة يونس وأمثالها من السور المكية كسورة الكهف، والمبلغ هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ).. فهو توحيد الدينونة والعبودية والاتباع والطاعة...
فتوحيد الدينونة لله وحده هو مَفْرِقُ الطريق بين الفوضى والنظام في عالم العقيدة؛ وبين تحرير البشرية من عِقال الوَهْم والخُرافة والسلطان الزائف، أو استعبادِها للأرباب المتفرِّقة ونزَواتِهم، وللوسطاء عند الله من خَلْقه... ولَمّا كان الله -سبحانه- يريد لعباده العزّةَ والكرامةَ والاستعلاءَ فقد أرسل رسلَه لِيَرُدّوا الناس إلى عبادة الله وحده. وليُخرِجوهم من عبادة العبيد.. لِخَيْرِهم هم أنفسهم.. والله غنيٌّ عن العالَمين. إن الحياة البشرية لا تبلُغ مستوى الكرامة الذي يريده الله للإنسان إلا بأن يَعْزِمَ البشرُ أن يَدينوا لله وحده، وأن يَخلَعوا من رقابهم نِيرَ الدينونة لغير الله. ذلك النِّيرُ المُذِلُّ لكرامة الإنسان في أية صورةٍ قد كان! والدينونة لله وحده تتمثل في ربوبيّته للناس وحده. والربوبيّة تعني القَوامة على البشر، وتصريفَ حياتهم بشَرْعٍ وأمرٍ من عند الله، لا من عند أحدٍ سِواه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملةُ: {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} معترِضةٌ بين جملةِ {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ} [هود: 1] وجملةِ {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [هود: 3] الآية، وهو اعتراضٌ للتحذير من مخالفة النهي والتّحريضِ على امتثاله. ووقوعُ هذا الاعتراض عَقِبَ الجملة الأولى التي هي من الآيات المُحْكَمات إشعارٌ بأن مضمونه من الآيات المُحْكَمات... وذلك لأن شأن الاعتراض أن يكون مناسباً لِمَا وقع بعده وناشئاً منه فإن مضمون البشير والنذير هو جامعٌ عَمَلَ الرسول صلى الله عليه وسلم في رسالته فهو بشيرٌ لمن آمن وأطاع، ونذيرٌ لِمَنْ أعرض وعصى، وذلك أيضاً جامعٌ للأصول المتعلقة بالرسالة وأحوال الرسل وما أخبروا به من الغيب فاندرج في ذلك العقائدُ السمعيّةُ، وهذا عَيْنُ الإحكامِ...
والجمعُ بين النَّذارة والبِشارة لمقابَلة ما تضمَّنَتْه الجملةُ الأولى من طلب تركِ عبادة غيرِ الله بطريق النهي وطلبِ عبادة الله بطريق الاستثناء، فالنَّذارةُ تَرجِع إلى الجزء الأول، والبِشارةُ تَرجِع إلى الجزء الثاني...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
{أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}. هذه الآيةُ الكريمةُ فيها الدلالةُ الواضحةُ على أن الحِكمة العُظمى التي أُنزِل القرآنُ من أجلها: هي أن يُعبَدَ اللهُ جَلَّ وعَلا وحدَه، ولا يُشرَكَ به في عبادته شيءٌ... وإفرادُه جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات، فيَدخُل في ذلك جميعُ الأوامر والنواهي القوليّةِ والفعليّةِ والاعتقاديّةِ...
إذن: فقد أحكمت آيات الكتاب وفصّلت لغاية هي: ألا نعبد إلا الله. والعبادة هي طاعة العابد للمعبود فيما أمر، وفيما نهى. وهكذا نجد أن العبادة تقتضي وجود معبود له أمر وله نهي، والمعبود الذي لا أمر له ولا نهي لا يستحق العبادة، فهل من عبد الصنم تلقّى منه أمرا أو نهيا؟ وهل من عبد الشمس تلقّى منه أمرا أو نهيا؟ إذن: فكلمة العبادة لكل ما هو غير الله هي عبادة باطلة؛ لأن مثل تلك المعبودات لا أمر لها ولا نهي، وفوق ذلك لا جزاء عندها على العمل الموافق لها أو المخالف لها. والعبادة بدون منهج "افعل "و "لا تفعل" لا وجود لها، وعبادة لا جزاء عليها ليست عبادة...
وما دامت العبادة هي طاعة الأمر، وطاعة النهي، فهي-إذن-تشمل كل ما ورد فيه أمر، وكل ما ورد فيه نهي. وإن نظرت إلى الأوامر والنواهي لوجدتها تستوعب كل أقضية الحياة من قمة الشهادة بأن لا إله إلا الله، إلى إماطة الأذى عن الطريق، وكل حركة تتطلبها الحياة لإبقاء الصالح على صلاحه أو زيادة الصالح ليكون أصلح، فهذه عبادة...