وقوله : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } أي : الذين آمنوا بنوح عليه السلام . وقد تقدَّم ذكر ذلك مفصلا في سورة " هود " ، وتقدَّم تفسيره بما أغنى عن إعادته .
وقوله : { وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } أي : وجعلنا تلك السفينة باقية ، إما عينها كما قال قتادة : إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي ، أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق ، كيف نجاهم من الطوفان ، كما قال تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ . وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ . وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ . إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } [ يس : 41 - 44 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ . لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11 ، 12 ] ، وقال هاهنا : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } ، وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس ، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ]
أي : وجعلنا نوعها ، فإن التي يرمى{[22515]} بها ليست هي التي زينة للسماء{[22516]} . وقال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } [ المؤمنون : 12 ، 13 ] ، ولهذا نظائر كثيرة .
وقال ابن جرير : لو قيل : إنّ الضمير في قوله : { وَجَعَلْنَاهَا } {[22517]} ، عائد إلى العقوبة ، لكان وجهًا ، والله أعلم .
فاء { فأنجيناه } عطف على { فأخذهم الطوفان } . وهذا إيماء إلى أن الله منجي المؤمنين من العذاب .
وقوله { وجعلناها ءاية للعالمين } الضمير للسفينة . ومعنى كونها آية أنها دليل على وقوع الطوفان عذاباً من الله للمكذبين الرسل ، فكانت السفينة آية ماثلة في عصور جميع الأمم الذين جاءتهم الرسل بعد نوح موعظة للمكذبين وحجة للمؤمنين . وقد أبقى الله بقية السفينة إلى صدر الأمة الإسلامية ففي « صحيح البخاري » : « قال قتادة : بقيت بقايا السفينة على الجودي حتى نظرتها أوائل هذه الأمة » . ويقال إنها دامت إلى أوائل الدولة العباسية ثم غمرتها الثلوج . وكان الجودي قرب ( باقِرْدَى ) وهي قرية من جزيرة ابن عمر بالموصل شرقي دجلة ( وباقردى بموحدة بعدها ألف ثم قاف مكسورة ويجوز فتحها ودال فألف مقصورة ) وقال تعالى في سورة القمر { ولقد تركناها ءاية فهل من مدُكر . } وإنما قال { للعالمين } الشامل لجميع سكان الأرض لأن من لم يشاهد بقايا سفينة نوح يشاهد السفن فيتذكر سفينة نوح وكيف كان صنعها بوحي من الله لإنجاء نوح ومن شاء الله نجاته ، ولأن الذين من أهل قريتها يُخبرون عنها وتنقل أخبارهم فتصير متواترة .
هذا وقد وقع في الإصحاح الثامن من سفر التكوين من التوراة « واستقر الفلك على جبال آراراط » ، وقد اختلف الباحثون في تعيين جبال أراراط ، فمنهم من قال : إنه اسم الجودي وعينوا أنه من جبال بلاد الأكراد في الحد الجنوبي لأرمينيا في سهول ما بين النهرين ووصفوه بأن نهر دجلة يجري بين مرتفعاته بحيث لا يمكن العبور بين الجبل ونهر دجلة إلا في الصيف ، وأيدوا قولهم بوجود بقية سفينة على قمة ذلك الجبل . وبعضهم زعم أن ( أراراط ) في بلاد أرمينيا وهو قريب من القول الأول لتجاور مواطن الكردستان وأرمينيا وقد تختلف حدود المواطن باختلاف الدول والفتوح .
ويجوز أن يكون ضمير النصب في { وجعلناها } عائداً إلى الخبر المذكور بتأويل القصة أو الحادثة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأنجيناه}، يعني: نوحا، عليه السلام، {وأصحاب السفينة} من الغرق، {وجعلناها}، يعني: السفينة، {آية للعالمين} يعني: لمن بعدهم من الناس.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فأنجينا نوحا وأصحاب سفينته، وهم الذين حملهم في سفينته من ولده وأزواجهم...
"وَجَعَلْناها آيَةً للْعالَمِينَ" يقول: وجعلنا السفينة التي أنجيناه وأصحابه فيها عبرة وعظة للعالمين، وحجة عليهم... ولو قيل: معنى: "وَجَعَلْناها آيَةً للعالَمِينَ": وجعلنا عقوبتنا إياهم آية للعالمين، وجعل الهاء والألف في قوله "وَجَعَلْناها" كناية عن العقوبة أو السخط، ونحو ذلك، إذ كان قد تقدم ذلك في قوله "فأخَذَهُمُ الطّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ" كان وجها من التأويل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وجعلناها}... يحتمل أن يعود على النجاة، والآية هنا العبرة على قدرة الله تعالى في شدة بطشه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ودل عليهم مسبباً عن ذلك بقوله: {فأنجيناه} أي نوحاً عليه السلام بما لنا من العظمة التي لا يغلبها شيء {وأصحاب السفينة} من أولاده وأتباعه، من الغرق، وماذا يبلغ مقدار أهل سفينة واحدة في العدة والكثرة {وجعلناها} أي الفعلة أو السفينة أي نفسها وجنسها، بتلك العظمة {آية} أي علامة على قدرة الله وعلمه وإنجائه للطائع وإهلاكه للعاصي {للعالمين} فإن لم يقع في الدهر حادثة أعظم منها ولا أغرب ولا أشهر... وكونها آية أما للآدميين الذين كانوا في ذلك الزمان فالأمر فيهم واضح، وأما غيرهم من الحيوان فقد عرفوا لمعرفتهم بالجزئيات المشاهدة أن ذلك الماء لا ينجى منه في دار الأسباب إلا هذه السفينة، فالهداية إلى فعلها للنجاة قبل وقوع سبب الهلاك دالة على تمام العلم وشمول القدرة، وأن من اهتدى إليه دون أهل ذلك العصر كلهم إنما اهتدى بإعلام الله دون غيره، ونصف الآية الأولى الأول من هذه القصة تسلية وتعزية دليلاً على آيتي الفتنة أول السورة، ونصفها الثاني تحذير وتوقية، وفيه دليل على الآية الثالثة، والآية الثالثة، والآية الأخرى تبشير وترجية، وفيه دليل على ما بعد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معنى كونها آية أنها دليل على وقوع الطوفان عذاباً من الله للمكذبين الرسل... وقد أبقى الله بقية السفينة إلى صدر الأمة الإسلامية ففي « صحيح البخاري»: « قال قتادة: بقيت بقايا السفينة على الجودي حتى نظرتها أوائل هذه الأمة»... وإنما قال {للعالمين} الشامل لجميع سكان الأرض لأن من لم يشاهد بقايا سفينة نوح يشاهد السفن فيتذكر سفينة نوح وكيف كان صنعها بوحي من الله لإنجاء نوح ومن شاء الله نجاته، ولأن الذين من أهل قريتها يُخبرون عنها وتنقل أخبارهم فتصير متواترة.