وقوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ } أي : اختبار وامتحان منه لكم ؛ إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه{[12859]} فيها ، أو تشتغلون بها عنه ، وتعتاضون بها منه ؟ كما قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التغابن : 15 ] ، وقال : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ المنافقون : 9 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } الآية [ التغابن : 14 ] .
وقوله : { وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي : ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد ، فإنه قد يوجد منهم عدو ، وأكثرهم لا يغني عنك شيئا ، والله ، سبحانه ، هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة ، ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة .
وفي الأثر يقول [ الله ]{[12860]} تعالى : " ابن آدم ، اطلبني تَجدني ، فإن وَجَدْتَنِي وجَدْتَ كل شيء ، وإن فُتُّكَ فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء " .
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه قال ]{[12861]} ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ{[12862]} أنقذه الله منه " {[12863]}
بل حب رسوله مقدم على الأولاد والأموال والنفوس ، كما ثبت في الصحيح أنه ، عليه السلام ، قال : " والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين " {[12864]}
هذا خطاب لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة ، وهو يجمع أنواع الخيانات كلها قليلها وكثيرها ، قال الزهراوي : والمعنى لا تخونوا بغلول الغنائم ، وقال الزهراوي وعبد الله بن أبي قتادة : سبب نزولها أمر أبي لبابة ، وذلك أنه أشار لبني قريظة حين سفر إليهم إلى حلقه يريد بذلك إعلامهم أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذبح ، أي فلا تنزلوا ، ثم ندم وربط نفسه بسارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه ، الحديث المشهور{[5292]} ، وحكى الطبري أنه أقام سبعة أيام لا يذوق شيئاً حتى تيب عليه ، وحكي أنه كان لأبي لبابة عندهم مال وأولاد فلذلك نزلت { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } ، وقال عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله : سببها أن رجلاً من المنافقين كتب إلى أبي سفيان بن حرب بخبر من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية{[5293]} ، فقوله : { يا أيها الذين آمنوا } معناه أظهروا الإيمان ، ويحتمل أن يخاطب المؤمنين حقاً أن لا يفعلوا فعل ذلك المنافق ، وحكى الطبري عن المغيرة بن شعبة أنه قال : أنزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه .
قال القاضي أبو محمد : يشبه أن تمثل بالآية في قتل عثمان رحمه الله ، فقد كانت خيانة لله وللرسول والأمانات ، والخيانة : التنقص للشيء باختفاء ، وهي مستعملة في أن يفعل الإنسان خلاف ما ينبغي من حفظ أمر ما ، مالاً كان أو سرّاً أو غير ذلك ، والخيانة لله تعالى هي في تنقص أوامره في سر وخيانة الرسول تنقص فقد اؤتمن على دينه وعبادته وحقوق الغير ، وقيل المعنى وتخونوا ذوي أماناتكم ، وأظن الفارسي أبا علي حكاه ، { وأنتم تعلمون } ، يريد أن ذلك لا يضر منه إلا ما كان عن تعمد .
وقوله { فتنة } يريد محنة واختباراً وابتلاء ليرى كيف العمل في جميع ذلك ، وقوله { وأن الله عنده أجر عظيم } يريد فوز الآخرة فلا تدعوا حظكم منه للحيطة على أموالكم وأبنائكم فإن المدخور للآخرة أعظم قدراً من مكاسب الدنيا .
وقوله تعالى : { وتخونوا } قال الطبري : يحتمل أن يكون داخلاً في النهي كأنه قال : لا تخونوا الله والرسول ولا تخونوا أماناتكم فمكانه على هذا جزم ، ويحتمل أن يكون المعنى لا تخونوا الله والرسول فذلك خيانة لأماناتكم فموضعه على هذا نصب على تقدير وأن تخونوا أماناتكم ، قال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله*** عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ{[5294]}
وقرأ مجاهد وأبو عمرو بن العلاء فيما روي عنه أيضاً «وتخونوا أمانتكم » على إفراد الأمانة .
ابتداء جملة : { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } بفعل { اعلموا } للاهتمام كما تقدم آنفاً عند قوله : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } [ الأنفال : 24 ] وقوله { واعلموا أن الله شديد العقاب } [ الأنفال : 25 ] وهذا تنبيه على الحذر من الخيانة التي يحمل عليها المرءَ حبُ المال وهي خيانة الغلول وغيرها ، فتقديم الأموال لأنها مظنة الحمل على الخيانة في هذا المقام .
وعطف الأولاد على الأموال لاستيفاء أقوى دواعي الخيانة ، فإن غرض جمهور الناس في جمع الأموال أن يتركوها لابنائهم من بعدهم ، وقد كثر قرن الأموال والأولاد في التحذير ، ونجده في القرآن ، قيل إن هاته الآية من جملة ما نزل في أبي لبابة .
وجيء في الإخبار عن كون الأموال والأولاد فتنة بطريق القصر قصراً ادعائياً لقصد المبالغة في إثبات أنهم فتنة .
وجُعل نفس « الأموال والأولاد » فتنة لكثرة حدوث فتنة المرء من جراء أحوالهما ، مبالغة في التحذير من تلك الأحوال وما ينشأ عنها ، فكأن وجود الأموال والأولاد نفس الفتنة .
وعطف قوله : { وأن الله عنده أجر عظيم } على قوله : { أنما أموالكم وأولادكم فتنة } للإشارة إلى أن ما عند الله من الأجر على كف النفس عن المنهيات هو خير من المنافع الحاصلة عن اقتحام المناهي لأجل الأموال والأولاد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم حذرهم، فقال: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة} يعنى بلاء؛ لأنه ما نصحهم إلا من أجل ماله وولده لأنه كان في أيديهم، {وأن الله عنده أجر}، يعنى جزاء {عظيم} يعني الجنة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين: واعلموا أيها المؤمنون أنما أموالكم التي خوّلكموها الله وأولادكم التي وهبها الله لكم اختبار وبلاء أعطاكموها ليختبركم بها ويبتليكم لينظر كيف أنتم عاملون من أداء حقّ الله عليكم فيها والانتهاء إلى أمره ونهيه فيها. "وأنّ الله عِنْدَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ "يقول: واعلموا أن الله عنده خير وثواب عظيم على طاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم في أموالكم وأولادكم التي اختبركم بها في الدنيا، وأطيعوا الله فيما لكم فيها تنالوا به الجزيل من ثوابه في معادكم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أمر الله تعالى المكلفين أن يعلموا ويتحققوا أن أموالهم وأولادهم فتنة. وإنما يمكنهم معرفة ذلك بالنظر والفكر في الأدلة المؤدية إليه، وهو ما يدعو إليه الهوى في الأموال والأولاد وما يصرف عنه، فمن تفقد ذلك وتحرز منه نجاه من مضرته، والمراد بالفتنة ههنا المحنة التي يظهر بها ما في النفس من اتباع الهوى أو تجنبه فيخلص حاله للجزاء بالثواب أو العقاب بحسب الاستحقاق...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أموالكم وأولادكم سبب فتنتكم لأن المرءَ -لأجل جمع ماله ولأجل أولاده- يرتكب ما هو خلاف الأمر، فيورثه فتنة العقوبة. ويقال الفتنةُ: الاختبارُ؛ فيختبرك بالأموال.. هل تؤثرها على حق الله؟ وبالأولاد.. هل تتركُ لأجلهم ما فيه رضاء الله؟ فإنْ آثرتم حقَّه على حقِّكم ظهرت به فضيلتُكم، وإنْ اتصفتم بضدِّه عوملتم بما يوجِبه العكس من محبوبكم. ويقال المالُ فتنةٌ إذا كان عن اللهِ يشغلكم، والأولادُ فتنةٌ إذا لأَجْلِهم قَصَّرْتُم في حقِّ الله أو فَرَّطتُم. ويقال المال -ما للكفافِ والعفافِ- نِعْمَةٌ، وما للتقاصِر والتفاخرِ فتنةٌ، وفي الجملة ما يشغلكَ عن اللهِ فهو فتنة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
جعل الأموال والأولاد فتنة، لأنهم سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب أو محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده.
و {الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فعليكم أن تنوطوا بطلبه وبما تؤدي إليه هممكم، وتزهدوا في الدنيا، ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد؛ حتى تورّطوا أنفسكم من أجلهما...
ثم إنه لما كان الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد، نبه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك الحب، فقال: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} لأنها تشغل القلب بالدنيا، وتصير حجابا عن خدمة المولى. ثم قال: {وأن الله عنده أجر عظيم} تنبيها على أن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا لأنها أعظم في الشرف، وأعظم في الفوز، وأعظم في المدة، لأنها تبقى بقاء لا نهاية له، فهذا هو المراد من وصف الله الأجر الذي عنده بالعظيم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان سبب الخيانة غالباً محبة المال أو الولد، وكان سبب التقاول المسبب عنه إنزال هذه السورة -كما سلف بيانه أولها- الأموال من الأنفال، وكان من أعظم الخيانة في الأنفال الغلول، وكان الحامل على الغلول المحنة بحب جمع المال إما استلذاذاً به أو لإنفاقه على محبوب، وكان الولد أعز محبوب؛ حسن كل الحسن إيلاء ذلك قوله: {واعلموا} وهي كلمة ينبه بها السامع على أن ما بعدها مهم جداً {أنما أموالكم} قلّت أو جلّت هانت أو عزّت {وأولادكم} كذلك {فتنة} أي سببها، يفعل الله بها فعل المختبر لينكشف للعباد من يغتر بالعاجل الفاني ممن تسمو نفسه عن ذلك، فلا يحملنكم ذلك على مخالفة أمر الله فتهلكوا {وأن الله} أي المحيط بكل كمال {عنده أجر عظيم} عاجلاً وآجلاً لمن وقف عند حدوده، فيحفظ له ماله ويثمره أولاده ويبارك له فيهم مع ما يدخر له في دار السعادة، وعنده عذاب أليم لمن ضيعها، فأقبلوا بجميع هممكم إليه تسعدوا،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة}، الفتنة هي: الاختبار والامتحان بما يشق على النفس فعله أو تركه أو قبوله أو إنكاره، فتكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء. يمتحن الله المؤمنين والكافرين، والصادقين والمنافقين، ويحاسبهم ويجزيهم بما يترتب على فتنتهم من اتباع الحق أو الباطل، وعمل الخير أو الشر، وقد تقدم الكلام في الفتنة مرارا من وجوه. وفتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذي فهم إلا أن الأفهام تتفاوت في وجوهها وطرقها، فأموال الإنسان عليها مدار معيشته وتحصيل رغائبه وشهواته ودفع كثير من المكاره عنه، فهو يتكلف في كسبها المشاق ويركب الصعاب، ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام، ويرغبه في القصد والاعتدال، ثم إنه يتكلف العناء في حفظها، وتتنازعه الأهواء المتناوحة في إنفاقها، فالشرع يفرض عليه فيها حقوقا مقدرة وغير مقدرة، ومعينة وغير معينة، ومحصورة وغير محصورة، كالزكاة ونفقات الأزواج والأولاد وغيرهم، وكفارات بعض الذنوب المعينة من عتق وصدقة ونسك وغير ذلك. ويندب له نفقات أخرى للمصالح العامة والخاصة تكفر الذنوب غير المعينة، ويترتب عليه شيء عظيم من الأجر والثواب. والضابط لجميع أنواع البذل من صفات النفس السماحة والسخاء من أركان الفضائل، ولجميع أنواع الإمساك البخل وهو من أمهات الرذائل، ولكل منهما درجات ودركات.
وأما الأولاد فهم كما يقول الأدباء: ثمرة الفؤاد وأفلاذ الأكباد، وحبهم كما قال الأستاذ الإمام: ضرب من الجنون يلقيه الفاطر الحكيم في قلوب الأمهات والآباء، يحملهما على بذل كل ما يستطاع بذله في سبيلهما من مال وصحة وراحة وغير ذلك، بل روى أبو يعلى من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى سيد الحكماء وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم (الولد ثمرة القلب وإنه مجبنة مبخلة محزنة) فإن كان سنده ضعيفا كما قالوا فمتنه صحيح، فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الآثام في سبيل تربيتهم والإنفاق عليهم وتأثيل الثروة لهم، يحملهما ذلك على الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق أو الحقيقة، أو الملة والأمة، وعلى البخل بالزكاة والنفقات المفروضة، والحقوق الثابتة، دع صدقات التطوع والضيافة، كما يحملهما الحزن على من يموت منهم على السخط على الرب تعالى والاعتراض عليه وغير ذلك من المعاصي كنوح الأمهات وتمزيق ثيابهن ولطم وجوههن، ففتنة الأولاد لها جهات كثيرة فهي أكبر من فتنة الأموال وأكثر تكاليف مالية ونفسية وبدنية، فالرجل يكسب الحرام ويأكل أموال الناس بالباطل لأجل أولاده كما يفعل ذلك لكبائر شهواته، فإذا قلت شهواته في الكبر فصار يكفيه القليل من المال يقوى في نفسه الحرص على شهوات أولاده، وما يكفي الواحد لا يكفي الآحاد، وفتنة الأموال قد تكون جزءا من فتنة الأولاد، فتقديمها وتأخير فتنة الأولاد من باب الانتقال من الأدنى إلى الأعلى. فالواجب على المؤمن اتقاء خطر الفتنة الأولى بكسب المال من الحلال، وإنفاقه في سبيل الله من البر والإحسان، واتقاء الحرام من الكسب والإنفاق، واتقاء خطر الفتنة الثانية من جهة ما يتعلق منها بالمال وغيره مما يشير إليه الحديث، وبما أوجب الله على الوالدين من حسن تربية الأولاد على الدين والفضائل، وتجنيبهم أسباب المعاصي والرذائل، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} [التحريم: 6]. وقد عطف على هذا التحذير قوله: {وأن الله عنده أجر عظيم} لتذكير المؤمنين بما يعينهم على ما يجب عليهم من اتقاء الفتنتين وهو إيثار ما عند الله عز وجل من الأجر العظيم لمن راعى أحكام دينه وشرعه في الأموال والأولاد ووقف عند حدوده وتفضيله على كل ما عساه يفوته في الدنيا من التمتع بهما، لعلهم يتقون مثل هفوة أبي لبابة حين حذر أعداء الله ورسوله من فتح حصنهم والنزول على حكم سعد بن معاذ، لما كان له من الاعتماد عليهم في حفظ ماله وولده، على أن للمؤمن الصادق حسن قدوة بأبي لبابة في توبته النصوح، إذا ألم به ضعف فوقع في مثل هفوته أو ما دونها من خيانة، وأين مثل أبي لبابة رضي الله عنه في ذلك؟ ونحن نرى كثيرا ممن يدعون الإيمان يخونون الله ورسوله في انتهاك حرمات دينهم، ويخونون أمتهم ودولتهم بثمن قليل أو كثير من المال يرجونه أو ينالونه من عدوهم، -وقد يكون من مال أمتهم وغنائم وطنهم- أو خوفا على مالهم وولدهم من سلطانه قبل أن يستقر له السلطان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم).. إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية، بما يعلم خالقها من تركيبها الخفي، وبما يطلع منها على الظاهر والباطن، وعلى المنحنيات والدروب والمسالك! وهو -سبحانه- يعلم مواطن الضعف في هذه الكينونة. ويعلم أن الحرص على الأموال وعلى الأولاد من أعمق مواطن الضعف فيها.. ومن هنا ينبهها إلى حقيقة هبة الأموال والأولاد.. لقد وهبها الله للناس ليبلوهم بها ويفتنهم فيها. فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء؛ ليرى الله فيها صنيع العبد وتصرفه.. أيشكر عليها ويؤدي حق النعمة فيها؟ أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها؟: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة).. فالفتنة لا تكون بالشدة وبالحرمان وحدهما.. إنها كذلك تكون بالرخاء وبالعطاء أيضا! ومن الرخاء العطاء هذه الأموال والأولاد.. هذا هو التنبيه الأول: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة).. فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار، كان ذلك عونا له على الحذر واليقظة والاحتياط؛ أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة. ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض.. فقد يضعف عن الأداء -بعد الانتباه- لثقل التضحية وضخامة التكليف؛ وبخاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد! إنما يلوّح له بما هو خير وأبقى، ليستعين به على الفتنة ويتقوى: (وأن الله عنده أجر عظيم).. إنه -سبحانه- هو الذي وهب الأموال والأولاد.. وعنده وراءهما أجر عظيم لمن يستعلي على فتنة الأموال والأولاد، فلا يقعد أحد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات الجهاد.. وهذا هو العون والمدد للإنسان الضعيف، الذي يعلم خالقه مواطن الضعف فيه: (وخلق الإنسان ضعيفاً). إنه منهج متكامل في الاعتقاد والتصور، والتربية والتوجيه، والفرض والتكليف. منهج الله الذي يعلم؛ لأنه هو الذي خلق: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ابتداء جملة: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة} بفعل {اعلموا} للاهتمام كما تقدم آنفاً عند قوله: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} [الأنفال: 24] وقوله {واعلموا أن الله شديد العقاب} [الأنفال: 25] وهذا تنبيه على الحذر من الخيانة التي يحمل عليها المرءَ حبُ المال وهي خيانة الغلول وغيرها، فتقديم الأموال لأنها مظنة الحمل على الخيانة في هذا المقام. وعطف الأولاد على الأموال لاستيفاء أقوى دواعي الخيانة، فإن غرض جمهور الناس في جمع الأموال أن يتركوها لأبنائهم من بعدهم، وقد كثر قرن الأموال والأولاد في التحذير، ونجده في القرآن...
وجيء في الإخبار عن كون الأموال والأولاد فتنة بطريق القصر قصراً ادعائياً لقصد المبالغة في إثبات أنهم فتنة. وجُعل نفس « الأموال والأولاد» فتنة لكثرة حدوث فتنة المرء من جراء أحوالهما، مبالغة في التحذير من تلك الأحوال وما ينشأ عنها، فكأن وجود الأموال والأولاد نفس الفتنة. وعطف قوله: {وأن الله عنده أجر عظيم} على قوله: {أنما أموالكم وأولادكم فتنة} للإشارة إلى أن ما عند الله من الأجر على كف النفس عن المنهيات هو خير من المنافع الحاصلة عن اقتحام المناهي لأجل الأموال والأولاد...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
سبحان منزل القرآن، أنزله نظاما وشرعا محكما، وحكمة منزلة، هو أمرنا ألا نخون، وعلمنا كيف نحارب نوازع الخيانة في نفوسنا، ونعالج منابع الفساد فينا، وهدانا السبيل لأن نربي أنفسنا؛ طلب إلينا ألا نخون، ثم بين موضع الداء وهو فتنة المال والولد. والأمر في قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}. أمر تعليم وعلم، وهذا العلم هو أن المال والولد فتنة، والفتنة هنا المراد بها الاختبار والامتحان من فتن الفلز إذ صهره بالنار لإخراج الفلز مما يعلق من مفاسد. وإنه بمقدار توقينا لفتنة المال يكون بعدنا عن الخيانة، ولقد قالوا: إنه كان لأبي لبابة الذي ذكرنا أنه شعر بأنه خان الله ورسوله إذ أشار لليهود بأن الحكم الذي سيصدره معاذ هو الذبح، كانت له أموال عند اليهود يخاف ضياعها ففتنة المال أغرته، بأن يقدم على الخيانة، وأن يطهر نفسه ذلك التطهير الشديد، بأن يحاول الانخلاع من كل ماله، فيخفف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يجعله في الثلث. وفتنة المال أشد فتنة، ويقول الله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} (الكهف 46)، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} (التغابن 14). وقدم المال على الولد؛ لأن المال في أظهر أحواله متعة خالصة، والولد متعة، وتكليف، وما لا تكليف فيه يكون أوضح و أظهر استمتاعا،و لذلك طلب المال الجميع.و الأبوة متعة و لكن معها تكليف ورعاية، والذين تفتنهم الدنيا تغرهم الأمور الظاهرة، وتعوق متعتهم الأمور القابلة، وإنه حيث فقد الشخص إحدى المتعتين المال، أو الولد، اشتدت الأخرى؛ ولذا كانت متعة الولد تشتد عند الفقراء، ولا تكون عند الأغنياء، كقوتها عند الفقراء، وتلك الفطرة. وقوله تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} فيها قصر الأموال والأولاد على الفتنة، ومن ناحيتها تجد الخيانة مسرب الشيطان إلى النفوس، فالآية تحذرنا من هذه الفتنة، والحذر لا يكون بترك المال والأولاد، إنما الحذر ألا نطلب المال إلا من الحلال، وألا تدفعنا عاطفة الأبوة إلى الشطط ومجاوزة الحد. وإنه يجب محاربة المتعة حتى لا تشتط بالإنسان بطلب متعة أبقى وأدوم وأهدى سبيلا، ولذا علمنا الله تعالى الإيمان بأن عند الله أجرا عظيما، إذا قاومنا فتنة المال والولد، والمقاومة ليست بالحرمان كما أشرنا، ولكن بالحذر، وألا نتعدى حدود الله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها...} (البقرة 229)، ولذا قال تعالى: {وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وذلك أجر مقاومة الفتنة، والوقوف بالمحبة للمال والولد، عند الحد الذي لا تكون معه خيانة، ولا تجانف لإثم...
إذا بحثنا عن علاقة هذه الآية بالآية السابقة عليها نجد أن العلاقة واضحة، لأن خيانة الله، وخيانة الرسول، وخيانة الأمانات إنما يكون لتحقيق شهوة أو نفع في النفس، وعليك أن تقدر أنت على نفسك لأنك قد لا تقدر على غيرك، ومثال ذلك: أنت قد لا تقدر على مطالب أولادك، وقد لا يكفي دخلك لمطالبهم، فهل يعني ذلك أن تأخذ أمانة استودعها واحد عندك؟ لا. هل يعني ذلك أن تخون في البيع والشراء لتحقيق مصلحة ما؟ لا. هل تخون أمانات الناس من أجل مصالح أولادك أو لتصير غنيا؟ لا. وقد جاء الحق هنا بالأمرين؛ المال والأولاد وأخبرنا أنهما فتنة، والفتنة –كما علمنا من قبل- لا تذم ولا تمدح إلا بنتيجتها؛ فقد تكون ممدوحة إذا نجحت في الاختبار، وتكون مذمومة حين ترسب في ذلك الاختبار المبين في تلك الآية الكريمة. والمتتبعون لأسرار الأداء القرآني يعرفون أن لكل حرف حكمة، وكل كلمة بحكمة، وكل جملة بحكمة؛ لذلك نجد من يتساءل: لماذا قدم الحق تبارك وتعالى الأموال على الأولاد؟. ونقول: لأن كل واحد له مال ولو لم يكن له إلا ملبسه. وبطبيعة الحال ليس لكل واحد أولاد. ثم إن الأبناء ينشؤون من الزواج، مجيء الزواج يحتاج إلى المال؛ لذلك كان من المنطق أن يأتي الحق بالأموال أولا ثم يأتي بذكر الأولاد... {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة}، وفي هذا القول تحذير واضح: إياكم أن ترسبوا في هذا الاختبار، فمن يجمع المال من حرام لترف أبنائه فهو خائن للأمانة، وهذا عقاب له، ولذلك يذكرنا الحق تبارك وتعالى في آخر هذه الآية بما يحبب إلينا من النجاح في الاختبار فيقول سبحانه: {وأن الله عنده أجر عظيم}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَلُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}. فليست الأموال امتيازاً ذاتياً للطغيان والتجبّر، وليس الأولاد منحةً شخصية للشعور بالقوة والخيلاء، بل هي أمانة في مستوى المسؤولية، ونعمةٌ في مستوى الامتحان. فقد أراد للأموال أن تكون من حلال وأن تصرف في الحلال، كما أراد للأولاد أن يكونوا مؤمنين صالحين عاملين بما يرضي الله ويصلح الناس. فهي فتنةٌ، يُفتن الإنسان بها ويُختبر، ليُعرف ما إذا كان يقوم فيها بما يستوجب مرضاة الله أو بما يستوجب سخطه، فإذا قام الإنسان فيها بطاعة الله، فإنه سيحصل على الثواب الكبير منه. {وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن آمن به وأخلص له الإيمان والطاعة. وهكذا يعتبر القرآن ملكية المال وظيفةً إنسانية، من أجل تحويله إلى طاقة حيّةٍ منتجةٍ من أجل بناء الحياة والإنسان، كما يعتبر الأُبوَّة للأولاد رسالةً يؤديّ أحد الأبوين أو كلاهما من خلالها مهمّته، ويقوم بدوره في تربية الأعضاء الفاعلين للأمة الذين يعملون من أجل المعاني الروحية والإنسانية التي جاءت بها الرسالات الإلهية إلى العالم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والآية بعدها تحذر المسلمين ليجتنبوا الماديات والمنافع العابرة، لئلا تلقى على عيونهم وآذانهم غشاء فيرتكبون خيانة تعرّض المجتمع إِلى الخطر فتقول: (واعلموا إنّما أموالكم وأولادكم فتنة). وكلمة «فتنة» كما ذكرنا تأتي في مثل هذه الموارد بمعنى وسيلة الامتحان، والحقيقة أنّ أهم وسيلة لامتحان الإِيمان والكفر والشخصية وفقدانها، وميزان القيم الإِنسانية للأفراد هو هذان الموضوعان (المال والأولاد). فكيفية جمع المال وكيفية إنفاقه، والمحافظة عليه و ميزان التعلق به، كل تلك ميادين لامتحان البشر، فكم من أناس يلتزمون بظاهر العبادة وشعائر الدين، حتى المستحبات يلتزمون بشدّة في أدائها، لكنّهم إذا ما ابتلوا بقضية مالية، تراهم ينسون كل شيء ويدعون الأوامر الإِلهية ومسائل الحق والعدل والإِنسانية جانباً. أمّا عن الأبناء فهم ثمار قلب الإِنسان وبراعم حياته المتفتحة، ولهذا نجد الكثير من الناس المتمسكين بالدين والمسائل الأخلاقية والإِنسانية، لا يراعوا الحق والدين بالنسبة للمسائل المتعلقة بمصلحة أبنائهم، فكأنّ ستاراً يلقى على أفكارهم فينسون كل الأُمور، ويصير حبّهم لأبنائهم سبباً ليحُلُّوا الحرام ويحرموا الحلال، ومن أجل توفير المستقيل لأبنائهم يستحقون كل حق ويقدمون على كل منكر، فيجب علينا الاعتصام بالله العظيم في هذين الميدانين العظيمين للامتحان، وأن نحذر بشدّة، فكم من الناس زلت أقدامهم وسقطوا فيهما، وظلت لعنة التأريخ تلاحقهم أبداً بذلك. فإذا زلت لنا قدم يوماً، فيجب علينا الإِسراع في تصحيح المسير ك (أبي لبابة) وإذا كان المال هو السبب في الانحراف، فعلينا بذله وإنفاقه في سبيل الله. وفي نهاية الآية بشارة كبرى لمن يخرج من هذين الامتحانين منتصراً، فتقول: (وإنّ الله عنده أجر عظيم). فمهما كان حبّ الأبناء كبيراً، ومهما كانت الأموال محبوبة وكثيرة، فإنّ جزاء الله وثوابه أعلى وأعظم من كل ذلك...