يقول تعالى مخبرًا عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسول إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول ، وأنه كتاب مفصل مبين ، كما قال تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ] }{[11806]} الآية [ هود : 1 ] .
وقوله : { فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ }{[11807]} أي : على علم منا بما فصلناه به ، كما قال تعالى : { أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء : 166 ]
قال ابن جرير : وهذه الآية مردودة على قوله : { كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ{[11808]} ] } [ الأعراف : 2 ]{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ [ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ ] }{[11809]} الآية .
وهذا الذي قاله فيه نظر ، فإنه قد طال الفصل ، ولا دليل على ذلك ، وإنما لما أخبر عما صاروا إليه من الخسار في الدار الآخرة ، ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدار الدنيا ، بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، كقوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [ الإسراء : 15 ] ؛ ولهذا قال : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصّلْنَاهُ عَلَىَ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أقسم يا محمد لقد جئنا هؤلاء الكفرة بكتاب ، يعني القرآن الذي أنزله إليهم ، يقول : لقد أنزلنا إليهم هذا القرآن مفصلاّ مبينا فيه الحقّ من الباطل ، عَلى عِلْمٍ يقول : على علم منا بحقّ ما فصل فيه من الباطل الذي ميز فيه بينه وبين الحقّ ، هُدًى وَرَحْمَةً يقول : بيناه ليهتدي ويرحم به قوم يصدّقون به وبما فيه من أمر الله ونهيه وأخباره ووعده ووعيده ، فينقذهم به من الضلالة إلى الهدى . وهذه الاَية مردودة على قوله : كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى للمُؤْمِنينَ . وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصّلْناهُ على عِلْمٍ والهدى في موضع نصب على القطع من الهاء التي في قوله : فَصّلْناهُ ولو نُصب على فعل فصّلناه ، فيكون المعنى : فصّلنا الكتاب كذلك كان صحيحا ولو قرىء «هُدًى وَرَحْمَةٍ » كان فِي الإعراب فصيحا ، وكان خفض ذلك بالردّ على الكتاب .
الواو في { ولقد جئناهم } عاطفة هذه الجملة على جملة { ونادى أصحاب النّار أصحابَ الجنّة } [ الأعراف : 50 ] ، عطف القصّة على القصّة ، والغرضِ على الغرض ، فهو كلام أنف انتقل به من غرض الخبر عن حال المشركين في الآخرة إلى غرض وصف أحوالهم في الدّنيا ، المستوجبين بها لما سيلاقونه في الآخرة ، وليس هو من الكلام الذي عقب الله به كلام أصحاب الجنّة في قوله : { فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا } [ الأعراف : 51 ] لأنّ قوله هنا { هل ينظرون إلاّ تأويله } [ الأعراف : 53 ] إلخ ، يقتضي أنّه حديث عن إعراضهم عن القرآن في الدّنيا ، فضمير الغائبين في قوله : { جئناهم } عائد إلى الذين كذّبوا في قوله : { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء } [ الأعراف : 40 ] الآية .
والمراد بالكتاب القرآن . والباء في قوله : { بكتاب } لتعدية فعل { جئناهم } ، مثل الباء في قوله : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] فمعناه : أجأناهم كتاباً ، أي جعلناه جاء يا إياهم ، فيؤول إلى معنى أبلغناهم إياه وأرسلناه إليهم .
وتأكيد هذا الفعل بلام القسم و ( قَدْ ) إمّا باعتبار صفة ( كتاب ) ، وهي جملة { فصّلناه على علم هدى ورحمة } فيكون التّأكيد جارياً على مقتضى الظّاهر ، لأنّ المشركين ينكرون أن يكون القرآن موصوفاً بتلك الأوصاف ، وإمّا تأكيد لفعل { جئناهم بكتاب } وهو بلوغ الكتاب إليهم فيكون التأكيد خارجاً على خلاف مقتضى الظاهر ، بتنزيل المبلَّغ إليهم منزلة من ينكر بلوغ الكتاب إليهم ، لأنّهم في إعراضهم عن النّظر والتّدبر في شأنه بمنزلة من لم يبلغه الكتاب ، وقد يناسب هذا الاعتبار ظاهر قوله بعد : { يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } [ الأعراف : 53 ] .
وتنكير ( كتاب ) ، وهو معروف ، قصد به تعظيم الكتاب ، أو قصد به النّوعيّة ، أي ما هو إلاّ كتاب كالكتب التي أنزلت من قبل ، كما تقدّم في قوله تعالى : { كتاب أنزل إليك } في طالع هذه السّورة ( 2 ) .
{ وفصلناه } أي بيّناه أي بيّنّا ما فيه ، والتّفصيل تقدّم عند قوله تعالى : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } في سورة الأنعام ( 55 ) .
و{ على عِلْمٍ } ظرف مستقر في موضع الحال من فاعل { فصّلناه } أي حال كوننا على علم ، و ( على ) للاستعلاء المجازي ، تدلّ على التّمكّن من مجرورها ، كما في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] وقوله : { قل إني على بينة من ربي } في سورة الأنعام ( 57 ) . ومعنى هذا التّمكنِ أن علم الله تعالى ذاتي لا يعْزُب عنه شيء من المعلومات .
وتنكير { عِلْم } للتّعظيم ، أي عالمين أعظمَ العلم ، والعظمة هنا راجعة إلى كمال الجنس في حقيقته ، وأعظم العلم هو العلم الذي لا يحتمل الخطأ ولا الخفاء أي عالمين علماً ذاتياً لا يتخلّف عنّا ولا يخْتلف في ذَاته ، أي لا يحتمل الخطأ ولا التّردّد .
و { هدى ورحمة } حال من { كتاب } . أو من ضميره في قوله : { فصّلناه } . ووصف الكتاب بالمصدرين { هدى ورحمة } إشارة إلى قوّة هديه النّاس وجلب الرّحمة لهم .
وجملة { هدى ورحمة لقوم يؤمنون } إشارة إلى أنّ المؤمنين هم الذين توصّلوا للاهتداء به والرحمة . وأن من لم يؤمنوا قد حُرموا الاهتداء والرّحمة . وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة ( 2 ) : { هدى للمتقين . }
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.