فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله . ففعل فأنبع الله عينا وأمره أن يغتسل منها فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عينا أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهبت ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا ولهذا قال تعالى : { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } : قال ابن جرير ، وابن أبي حاتم جميعًا : حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن نبي الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه : تعلم - والله - لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين . قال له صاحبه : وما ذاك ؟ قال : من ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله ، فيكشفَ ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له . فقال أيوب : لا أدري ما تقول غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله عز وجل ، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما ، كراهية أن يذكرا الله إلا في حق . قال : وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها وأوحى الله تعالى إلى أيوب ، عليه السلام ، أن { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } فاستبطأته فتلقته تنظر فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان . فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى . فوالله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا . قال : فإني أنا هو . قال : وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض . هذا لفظ ابن جرير رحمه الله وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا مَعْمَر عن همام بن مُنَبِّه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثو في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى ؟ قال : بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك " . انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرزاق به . ولهذا قال تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ }
وقوله : ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ) : ومعنى الكلام : إذ نادى ربه مستغيثا به ، أني مسني الشيطان ببلاء في جسدي ، وعذاب بذهاب مالي وولدي ، فاستجبنا له ، وقلنا له : اركض برجلك الأرض : أي حرّكها وادفعها برجلك ، والركض : حركة الرجل ، يقال منه : ركضت الدابة ، ولا تركض ثوبك برجلك .
وقيل : إن الأرض التي أُمر أيوب أن يركضها برجله : الجابية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قلا : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ . . . ) الاَية ، قال : ضرب برجله الأرض ، أرضا يقال لها الجابية .
وقوله : ( هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرَابٌ ) : ذُكر أنه نبعت له حين ضرب برجله الأرض عينان ، فشرب من إحداهما ، واغتسل من الأخرى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ضرب برجله الأرض ، فإذا عينان تنبعان ، فشرب من إحداهما ، واغتسل من الأخرى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : ( ارْكُضْ برِجْلكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ) قال : فركض برجله ، فانفجرت له عين ، فدخل فيها واغتسل ، فأذهب الله عنه كلّ ما كان من البلاء .
حدثني بشر بن آدم ، قال : حدثنا أبو قُتيبة ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : سمعت الحسن ، في قول الله : ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ) فركض برجله ، فنبعت عين فاغتسل منها ، ثم مشى نحوا من أربَعين ذراعا ، ثم ركض برجله ، فنبعت عين ، فشرب منها ، فذلك قوله : ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ) .
وعنى بقوله : مُغْتَسَلٌ : ما يُغْتَسل به من الماء ، يقال منه : هذا مُغْتَسل ، وغَسُول للذي يُغتسل به من الماء . وقوله : وَشَرابٌ يعني : ويشرب منه ، والموضع الذي يغتسل فيه يسمى مغتسلاً .
جملة { اركض برِجلِك } الخ مقولة لقول محذوف ، أي قلنا له اركض برجلك ، وذلك إيذان بأن هذا استجابة لدعائه .
والرّكْض : الضرب في الأرض بالرجل ، فقوله : { بِرِجْلِكَ } زيادة في بيان معنى الفعل مثل : { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] وقد سمّى الله ذلك استجابة في سورة [ الأنبياء : 84 ] إذ قال : { فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر } . وجملة { هذا مُغْتسلٌ } مقولة لقول محذوف دل عليه المقول الأول ، وفي الكلام حذف دلّت عليه الإِشارة . فالتقدير : فركض الأرض فنبع ماء فقلنا له : هذا مغتسل بارد وشراب . فالإِشارة إلى ماء لأنه الذي يغتسل به ويشرب .
ووصْف الماء بذلك في سياق الثناء عليه مشير إلى أن ذلك الماء فيه شفاؤه إذا اغتسل به وشَرب منه ليتناسب قول الله له مع ندائه ربّه لظهور أن القول عقب النداء هو قول استجابة الدعاء من المدعو . و { مغتسل } اسم مفعول من فعل اغتسل ، أي مغتسل به فهو على حذف حرف الجر وإيصال المغتسل القاصر إلى المفعول مثل قوله :
ووصفه ب { بَارِدٌ } إيماء إلى أن به زوال ما بأيوب من الحمى من القروح . قال النبي صلى الله عليه وسلم " الحُمى من فَيْح جهنم فأطفئوها بالماء " ، أي نافع شاف ، وبالتنوين استُغني عن وصف { شراب } إذ من المعلوم أن الماء شراب فلولا إرادة التعظيم بالتنوين لكان الإِخبار عن الماء بأنه شراب إخباراً بأمر معلوم ، ومرجع تعظيم { شراب } إلى كونه عظيماً لأيوب وهو شفاء ما به من مرض .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.