ثم يعقب على هذه الحقائق الثلاث بالحقيقة الكبرى التي تقوم عليها الحقائق جميعا . الحقيقة الأولى التي تنبثق منها الحقائق جميعا . وهي الحقيقة التي تعالجها الجولة ؛ وتقدم لها بهذا الدليل :
ذلك بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه الباطل ، وأن الله هو العلي الكبير . .
ذلك . . ذلك النظام الكوني الثابت الدائم المنسق الدقيق . . ذلك النظام قائم بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل . قائم بهذه الحقيقة الكبرى التي تعتمد عليها كل حقيقة ، والتي يقوم بها هذا الوجود . فكون الله هو الحق . سبحانه . هو الذي يقيم هذا الكون ، وهو الذي يحفظه ، وهو الذي يدبره ، وهو الذي يضمن له الثبات والاستقرار والتماسك والتناسق ، ما شاء الله له أن يكون . .
( ذلك بأن الله هو الحق ) . . كل شيء غيره يتبدل . ولك شيء غيره يتحول . وكل شيء غيره تلحقه الزيادة والنقصان ، وتتعاوره القوة والضعف ، والازدهار والذبول ، والإقبال والإدبار . وكل شيء غيره يوجد بعد أن لم يكن ، ويزول بعد أن يكون . وهو وحده - سبحانه - الدائم الباقي الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يحول ولا يزول . .
ثم تبقى في النفس بقية من قوله تعالى : ( ذلك بأن الله هو الحق ) . . بقية لا تنقلها الألفاظ ولا يستقل بها التعبير البشري الذي أملك . بقية يتمثلها القلب ويستشعرها الضمير ؛ و يحسها الكيان الإنساني كله ويقصر عنها التعبير ! . . وكذلك : ( وأن الله هو العلي الكبير ) . . الذي ليس غيره( علي )ولا( كبير ) ! ! ! ترى قلت شيئا يفصح عما يخالج كياني كله أمام التعبير القرآني العجيب ? أحس أن كل تعبير بشري عن مثل هذه الحقائق العليا ينقص منها ولا يزيد ؛ وأن التعبير القرآني - كما هو - هو وحده التعبير الموحي الفريد ! ! !
ويعقب السياق على ذلك المشهد الكوني ، وهذه اللمسة الوجدانية ، بمشهد آخر من مألوف حياة البشر . مشهد الفلك تجري في البحر بفضل الله . ويقفهم في هذا المشهد أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر وخطره ، مجردة من القوة والبأس والبطر والغرور :
وقوله تعالى : { ذلك بأن الله هو الحق } الإشارة ب { ذلك } إلى هذه العبرة وما جرى مجراها ، ومعنى { هو الحق } أي صفة الألوهية له حق ، فيحسن في القول تقدير ذو ، وذلك الباب متى أخبر بمصدر عن عين فالتقدير ذو كذا وحق مصدر منه قول الشاعر :
فإنما هي إقبال وإدبار{[9387]} . . . وهذا كثير ومتى قلت كذا وكذا حق فإنما معناه اتصاف كذا بكذا حق ، وقوله { وأن ما تدعون من دونه } يصح أن يريد الأصنام وتكون بمعنى الذي ويكون الإخبار عنها ب { الباطل } على نحو ما قدمناه في { الحق } ، ويصح أن تكون { ما } مصدرية كأنه قال وأن دعاءكم من دونه آلهة الباطل أي الفعل الذي لا يؤدي إلى الغاية المطلوبة به ، وقرأ الجمهور «تدعون » بالتاء من فوق ، وقرأ «يدعون » بالياء ابن وثاب والأعمش وأهل مكة ورويت عن أبي عمرو ، وباقي الآية بين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
هذا الذي ذكر من صنع الله، والنهار والشمس والقمر {بأن الله} جل جلاله {هو الحق} وغيره باطل يدل على توحيده بصنعه.
{وأن ما يدعون} يعني يعبدون {من دونه} من الآلهة هو {الباطل} لا تنفعكم عبادتهم وليس بشيء.
{وأن الله هو العلي} يعني الرفيع فوق خلقه {الكبير} فلا أعظم منه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هذا الذي أخبرتك يا محمد أن الله فعله من إيلاجه الليل في النهار، والنهار في الليل، وغير ذلك من عظيم قُدرته، إنما فعله بأنه الله حقا، دون ما يدعوه هؤلاء المشركون به، وأنه لا يقدر على فعل ذلك سواه، ولا تصلح الألوهة إلاّ لمن فعل ذلك بقُدرته.
وقوله:"وأنّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الباطِلُ" يقول تعالى ذكره: وبأن الذي يعبد هؤلاء المشركون من دون الله الباطل الذي يضمحلّ، فيبيد ويفني.
"وأنّ اللّهَ هُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ "يقول تعالى ذكره: وبأن الله هو العليّ، يقول: ذو العلوّ على كلّ شيء، وكلّ ما دونه فله متذلل منقاد، الكبير الذي كل شيء دونه، فله متصاغر.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أي: العلي: الذي لا أعلى منه، الكبير: الذي هو أكبر من كل شيء، فكل شيء خاضع حقير بالنسبة إليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ثبت بهذه الأوصاف الحسنى والأفعال العلى أنه لا موجد بالحقيقة إلا الله قال: {ذلك} أي ذكره لما من الأفعال الهائلة والأوصاف الباهرة {بأن} أي بسبب أن {الله} أي الذي لا عظيم سواه {هو} وحده {الحق} أي الثابت بالحقيقة وثبوت غيره في الواقع عدم، لأنه مستفاد من الغير، وليس له الثبوت من ذاته، ومنه ما أشركوا به، ولذلك أفرده بالنص، فقال صارفاً للخطاب الماضي إلى الغيبة على قراءة البصريين وحمزة وحفص عن عاصم إيذاناً بالغضب، وقراءة الباقين على الأسلوب الماضي {وأنَّ ما يدعون} أي هؤلاء المختوم على مداركهم، وأشار إلى سفول رتبتهم بقوله: {من دونه}.
ولما تقدمت الأدلة الكثيرة على بطلان آلهتهم بما لا مزيد عليه، كقوله {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه} وأكثر هنا من إظهار الجلالة موضع الإضمار تنبيهاً على عظيم المقام لم تدع حاجة إلى التأكيد بضمير الفصل فقال: {الباطل} أي العدم حقاً، لا يستحق أن تضاف إليه الإلهية بوجه من الوجوه، وإلا لمنع من شيء من هذه الأفعال مرة من المرات، فلما وجدت على هذا النظام علم أنه الواحد الذي لا مكافئ له.
ولما كانوا يعلونها عن مراتبها ويكبرونها بغير حق، قال: {وأن الله} أي الملك الأعظم وحده، ولما كان النيران مما عبد من دون الله، وكانا قد جمعاً علواً وكبراً، وكان ليس لهما من ذاتهما إلا العدم فضلاً عن السفول والصغر، ختم بقوله: {هو العلي الكبير} أي عن أن يداينه في عليائه ضد، أو يباريه في كبريائه ند.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{ذلك} إشارةٌ إلى ما تُلي من الآياتِ الكريمةِ، وما فيهِ من مَعْنى البعدِ للإيذانِ ببُعد منزلتِها في الفضلِ...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} في ذاته وفي صفاته، ودينه حق، ورسله حق، ووعده حق، ووعيده حق، وعبادته هي الحق.
{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} فلولا إيجاد اللّه له لما وجد، ولولا إمداده لَمَا بَقِيَ، فإذا كان باطلا، كانت عبادته أبطل وأبطل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك.. ذلك النظام الكوني الثابت الدائم المنسق الدقيق.. ذلك النظام قائم بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل. قائم بهذه الحقيقة الكبرى التي تعتمد عليها كل حقيقة، والتي يقوم بها هذا الوجود. فكون الله هو الحق سبحانه هو الذي يقيم هذا الكون، وهو الذي يحفظه، وهو الذي يدبره، وهو الذي يضمن له الثبات والاستقرار والتماسك والتناسق، ما شاء الله له أن يكون.. (ذلك بأن الله هو الحق).. كل شيء غيره يتبدل. وكل شيء غيره يتحول. وكل شيء غيره تلحقه الزيادة والنقصان، وتتعاوره القوة والضعف، والازدهار والذبول، والإقبال والإدبار. وكل شيء غيره يوجد بعد أن لم يكن، ويزول بعد أن يكون. وهو وحده -سبحانه- الدائم الباقي الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يحول ولا يزول.. وكذلك: (وأن الله هو العلي الكبير).. الذي ليس غيره (علي) ولا (كبير)!!!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {العلي}: صفة مشتقة من العلوّ المعنويّ المجازي وهو القدسية والشرف.
والكبير: وصف مشتق من الكِبَر المجازي وهو عظمة الشأن.
فالله هو العلي بشهادة من كفر به، ثم أردف صفة (العلي) بصفة (الكبير)؛ لأن العلي يجوز أنه علا بطغيان وعدم استحقاق للعلو، لكن الحق سبحانه هو العلي، وهو الكبير الذي يستحق هذا العلو.