وأمام هذا الموقف المهين الميئوس منه في الآخرة ، يردهم إلى موقفهم في الفرصة المتاحة لهم في الأرض قبل مواجهة ذلك الموقف ؛ وهم يصدون عنها ويعرضون ، بل يفرون من الهدى والخير ووسائل النجاة المعروضة عليهم فيها ، ويرسم لهم صورة مضحكة تثير السخرية والعجب من أمرهم الغريب :
( فما لهم عن التذكرة معرضين ? كأنهم حمر مستنفرة ، فرت من قسورة ? ) . .
ومشهد حمر الوحش وهي مستنفره تفر في كل اتجاه ، حين تسمع زئير الأسد وتخشاه . . مشهد يعرفه العرب . وهو مشهد عنيف الحركة . مضحك أشد الضحك حين يشبه به الآدميون ! حين يخافون ! فكيف إذا كانوا إنما ينفرون هذا النفار الذي يتحولون به من آدميين إلى حمر ، لا لأنهم خائفون مهددون بل لأن مذكرا يذكرهم بربهم وبمصيرهم ، ويمهد لهم الفرصة ليتقوا ذلك الموقف الزري المهين ، وذلك المصير العصيب الأليم ? !
إنها الريشة المبدعة ترسم هذا المشهد وتسجله في صلب الكون ، تتملاه النفوس ، فتخجل وتستنكف أن تكون فيه ، ويروح النافرون المعرضون أنفسهم يتوارون من الخجل ، ويطامنون من الإعراض والنفار ، مخافة هذا التصوير الحي العنيف !
قوله تعالى { فرت } وبذلك رجح أبو علي قراءة كسر {[11454]}الفاء ، واختلف المفسرون في معنى القسورة فقال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة : «القسورة » الرماة ، وقال ابن عباس أيضاً وأبو هريرة وجمهور من اللغويين : «القسورة » الأسد ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
مضمر تحذره الأبطال*** كأنه القسورة الرئبال{[11455]}
وقال ابن جبير : «القسورة » : رجال القنص ، وقاله ابن عباس أيضاً ، وقيل : «القسورة » ركز الناس ، وقيل : «القسورة » الرجال الشداد ، قال لبيد :
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا*** أتانا الرجال العاندون القساور{[11456]}
وقال ثعلب : «القسورة » سواد أول الليل خاصة لآخره أو اللفظة مأخوذة من القسر الذي هو الغلبة والقهر .
و { قسورة } قيل هو اسم جمع قسْوَر وهو الرامي ، أو هو جمع على خلاف القياس إذ ليس قياس فَعْلَل أن يجمع على فَعْلَلة . وهذا تأويل جمهور المفسرين عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهما فيكون التشبيه جارياً على مراعاة الحالة المشهورة في كلام العرب .
وقيل : القسورة مُفرد ، وهو الأسد ، وهذا مروي عن أبي هريرة وزيد بن أسلم وقال ابن عباس : إنه الأسد بالحبشية ، فيكون اختلاف قول ابن عباس اختلافاً لفظياً ، وعنه : أنه أنكر أن يكون قَسْور اسمَ الأسد ، فلعله أراد أنه ليس في أصل العربية . وقد عدّه ابن السبكي في الألفاظ الواردة في القرآن بغير لغة العرب في أبيات ذكر فيها ذلك ، قال ابن سيده : القسور الأسد والقسورة كذلك ، أنثوه كما قالوا : أُسامة ، وعلى هذا فهو تشبيه مبتكر لحالة إِعراض مخلوط برُعْب مما تضمنته قوارع القرآن فاجتمع في هذه الجملة تمثيلان .
وإيثار لفظ { قسورة } هنا لصلاحيته للتشبيهين مع الرعاية على الفاصلة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى القسورة؛
وقال بعضهم في القسورة: هو الأسد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 50]
كأنهم حمر مستنفرة} {فرت من قسورة} بنصب الفاء وخفضه. ومن قرأ بخفض الفاء صرف الفعل إليها، كأنه يقول: حمر نافرة، ونفر واستنفر واحد كما يقال: استرقد القوم أي رقدوا. ومن قرأ بنصب الفاء فتأويله أنه فعل بها ما يحملها على النفار، وذلك يكون بالرامي وبالقانص، من الأسد كما ذكره أهل التفسير في تأويله القسورة، هي الأسد والرماة أو الصيادون، ويقال: هي النفرة، وكان هذا تشبيها بالحمر الوحشية التي في طبعها النفار. ووجه التقريب، هو أن هؤلاء أعرضوا عما في الإقبال عليه نجاتهم وتخلصهم من العطب، ونفروا كنفار الحمر المستنفرة من العطب والهلاك. وفي هذه الآية تبيين شدة سفههم وغاية جهلهم، لأن الحمر تنفر من القانص والرامي والأسد لتسلم من الهلاك والعطب، وهؤلاء الكفرة نفروا عما فيه نجاتهم إلى ما فيه هلاكهم وعطبهم، فهم أشر من الحمير وأضل.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والقسورة: أصله الأخذ بالشدة، من قسره يقسره قسرا أي قهره.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والقسورة: جماعة الرماة الذين يتصيدونها. وقيل: الأسد يقال: ليوث قساور وهي فعولة من القسر: وهو القهر والغلبة، وفي وزنه «الحيدرة» من أسماء الأسد. وعن ابن عباس: ركز الناس وأصواتهم. وعن عكرمة: ظلمة الليل، شبههم في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر والموعظة وشرادهم عنه، بحمر جدّت في نفارها مما أفزعها. وفي تشبيههم بالحمر: مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بيّن. كما في قوله: {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5]، وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل. ولا ترى مثل نفار حمير الوحش واطرادها في العدو إذا رأبها رائب؛ ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل وشدّة سيرها بالحمر، وعدوها إذا وردت ماء فأحست عليه بقانص.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 49]
وأمام هذا الموقف المهين الميئوس منه في الآخرة، يردهم إلى موقفهم في الفرصة المتاحة لهم في الأرض قبل مواجهة ذلك الموقف؛ وهم يصدون عنها ويعرضون، بل يفرون من الهدى والخير ووسائل النجاة المعروضة عليهم فيها، ويرسم لهم صورة مضحكة تثير السخرية والعجب من أمرهم الغريب:
(فما لهم عن التذكرة معرضين؟ كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة؟)..
ومشهد حمر الوحش وهي مستنفره تفر في كل اتجاه، حين تسمع زئير الأسد وتخشاه.. مشهد يعرفه العرب. وهو مشهد عنيف الحركة. مضحك أشد الضحك حين يشبه به الآدميون! حين يخافون! فكيف إذا كانوا إنما ينفرون هذا النفار الذي يتحولون به من آدميين إلى حمر، لا لأنهم خائفون مهددون بل لأن مذكرا يذكرهم بربهم وبمصيرهم، ويمهد لهم الفرصة ليتقوا ذلك الموقف الزري المهين، وذلك المصير العصيب الأليم؟!
إنها الريشة المبدعة ترسم هذا المشهد وتسجله في صلب الكون، تتملاه النفوس، فتخجل وتستنكف أن تكون فيه، ويروح النافرون المعرضون أنفسهم يتوارون من الخجل، ويطامنون من الإعراض والنفار، مخافة هذا التصوير الحي العنيف!