بالغة : واصلة غاية الإحكام والإبداع .
النذر : الرُّسل أو الأمور المخوّفة لهم .
5- { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ }
إن هذا القرآن حكمة بالغة ، بلغت الغاية والنهاية في الهداية والبيان ، حيث تكلم عن بدء الخليقة ، ولفت الأنظار إلى الكون وجماله وإبداع خلقه ، لكن الكفار أصمّوا آذانهم وأغلقوا عقولهم ، وساروا وراء أهوائهم ، فلم ينتفعوا بهدى القرآن .
قال تعالى : { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } . ( يونس : 101 ) .
أي : ماذا تنفع الآيات الواضحة ، والنُّذر جمع نذير ، بمعنى منذر ، أي : ماذا تفيد وسائل الهدى لقوم سدوا في منافذ الهداية ، ورفضوا وسائل الإيمان ؟
قال تعالى : { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } . ( البقرة : 6 ) .
وقال تعالى : { لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها . . . } ( الأعراف : 179 )
وقال سبحانه وتعالى : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِين } . ( الزمر : 22 ) .
حكمة بالغة : واصلةٌ غايةَ الإحكام والإبداع .
فما تُغني النذر : فما يفيد المنذِرون لمن انصرف عنهم .
وهو { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِي النذر } . إنه حكمةٌ عظيمة بالغةٌ غايتها في الهداية والإرشاد إلى طريق الحقّ لو أنهم فكّروا واستعملوا عقولهم ، ولكن أيّ نفعٍ تفيد النذُر لمن اتَّبع هواه وانصرف عنها ! ؟ .
{ حِكْمَةٌ بالغة } أي واصلة غاية الإحكام لا خلل فيها ، ورفع { حِكْمَةٌ } على أنها بدل كل ، أو اشتمال من { مَا } ، وقيل : من { مُزْدَجَرٌ } [ القمر : 4 ] أو خبر مبتدأ محذوف أي هي ، أو هذه على أن الإشارة لما يشعر به الكلام من إرسال الرسل وإيضاح الدليل والإنذار لمن مضى ، أو إلى ما في الأنباء ، أو إلى الساعة المقتربة ، والآية الدالة عليها كما قاله الإمام وتقدم آنفاً احتمال كونها خبراً عن كل في قراءة زيد ، وقرأ اليماني { حِكْمَةٌ بالغة } بالنصب حالاً من { مَا } فإنها موصولة أو نكرة موصوفة ، ويجوز مجيء الحال منها مع تأخرها أو هو بتقدير أعني .
{ فَمَا تُغْنِى النذر } نفي للإغناء أو استفهام إنكاري والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكمة البالغة مع كونه مظنة للإغناء وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار ، و { مَا } على الوجه الثاني في محل نصب على أنها مفعول مطلق أي فأي إغناء تغني النذر ، وجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء ، والجملة بعدها خبر ، والعائد مقدر أي فما تغنيه النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر ، وجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإنذار ، وتعقب بأن حق المصدر أن لا يثنى ولا يجمع وأن يكون مصدراً كالإنذار ، وتعقب بأنه يأباه تأنيث الفعل المسند إليه وكونه باعتبار أنه بمعنى النذارة لا يخفى حاله .
{ حكمة بالغة } : أي الذي جاءهم من الأنباء هو حكمة بالغة أي تامة .
{ فما تغن النذر } : أي عن قوم كذبوا واتبعوا أهواءهم لا تغن شيئاً .
والحكمة القول الذي يمنع صاحبه من التردي والهلاك بصرفه عن أسباب ذلك . وقوله تعالى { فما تغن النذر } أي عن قوم كذبوا بالحق لما جاءهم واتبعوا أهواءهم ولم يتبعوا هدى ربهم ولا عقولهم .
قوله تعالى : { حكمة بالغة } يعني : القرآن حكمة تامة قد بلغت الغاية في الزجر { فما تغني النذر } يجوز أن تكون " ما " نفياً ، على معنى : فليست تغني النذر ، ويجوز أن يكون استفهاماً ، والمعنى : فأي شيء تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم ؟ كقوله : { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون }( يونس-101 ) والنذر : جمع نذير .
وقوله - تعالى - : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } بدل من " ما " أو خبر لمبتدأ محذوف .
والحكمة : العلم النافع الذى يترتب عليه تحرى الصواب فى القول والفعل .
أى : هذا الذى جاءهم من أنباء الماضين ، ومن أخبار السابقين فيه ما فيه عن الحكم البليغة ، والعظات الواضحة التى لا خلل فيها ولا اضطراب .
و " ما " فى قوله : { فَمَا تُغْنِ النذر } نافية ، والنذُر : جمع نذير بمعنى مُنذِر .
أى : لقد جاء إلى هؤلاء المشركين من الأخبار ومن الحكم البليغة ما يزجرهم عن ارتكاب الشرور ، وما فيه إنذار لهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا فى غيهم ، ولكن كل ذلك لا غناء فيه ، ولا نفع من ورائه لهؤلاء الجاحدين المعاندين الذين عمو وصموا . . .
ويصح أن تكون " ما " هنا ، للاستفهام الإنكارى . أى : ما الذى تغنيه النذر بالنسبة لهؤلاء المصرين على الكفر ؟ إنها لا تغنى شيئا ما داموا لم يفتحوا قلوبهم للحق :
قوله : { حكمة بالغة فما تغن النذر } حكمة ، مرفوع على أنه بدل من " ما " أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، وتقديره : حكمة بالغة{[4395]} والمراد بالحكمة البالغة القرآن . فهو الحكيم بكل ما تضمنه من عظيم الأخبار والأفكار والأحكام والعبر فليس له فيه من خلل ولا نقص ولا ضعف بل إنه الغاية في سمو الأحكام والمعاني وكمال المواعظ والمقاصد . قوله : { فما تغن النذر } ما ، نافية . أي فليست تغني عنهم النذر شيئا . فهم لا ينتفعون بالنواهي والزواجر والمواعظ والآيات لشدة إعراضهم و فرط تكذيبهم . و قيل : ما ، استفهامية . فيكون المعنى : فأيّ شيء تغني عنهم النذر وهم معرضون ، موغلون في الشرك ، جامحون نحو الطغيان والباطل . والنذر ، جمع نذير ، وهو من الإنذار أي الإبلاغ في تحذير وتخويف .