اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{حِكۡمَةُۢ بَٰلِغَةٞۖ فَمَا تُغۡنِ ٱلنُّذُرُ} (5)

قوله : «حكمة » فيه وجهان :

أحدهما : أنه بدل من { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } كأنه قيل : ولقد جاءهم حكمة بالغة من الأنباء ، وحينئذ يكون بدل كل من كل ، أو بدل اشتمال .

الثاني : أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي هو حكمة بالغةٌ{[53875]} ، أي ذلك الذي جاءهم من إرسال الرسل وإيضاح الدلائل ، والإنذار لمن مضى ، أو إشارة لما فيه الأنباء أنه حكمة ، أو إشارة إلى الساعة المقتربة . وقد تقدم أنه يجوز على قراءة أبي جعفر وزيد أن يكون خبراً ل { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } . وقرئ «حِكْمَةً » بالنصب حالاً من «ما »{[53876]} .

قال الزمخشري : فإن قلت : إن كانت «ما » موصولة ساغ لك أن تنصب «حكمة » حالاً فكيف تعمل إن كانتْ موصوفة وهو الظاهر ؟

قلت : تَخَصُّصها بالصفة فيحسن نصب الحال عنها . انتهى{[53877]} .

وهو سؤال واضح ؛ لأنه يصير التقدير : جاءهم من الأنْبَاء شيء فيه ازدجار فيكون منكراً ، وتنكير ذِي{[53878]} الحال قبيحٌ .

قوله : { فَمَا تُغْنِي النذر } يجوز في «ما » أن تكون استفهامية ، وتكون في محل نصب مفعولاً مقدماً أي أَيَّ شَيْء تُغْنِي النذر ؟ وأن تكون نافية أي لم تغن النذر شيئاً{[53879]} .

والنذر جمع نَذِير ؛ والمراد به المصدر أو اسم الفاعل كما تقدم في آخر النجم{[53880]} . وكتب «تغن » إتباعاً للفظ الوصل ، فإنها ساقطة لالتقاء الساكنين{[53881]} .

قال بعض النحويين : وإنما حذفت الياء من «تغني » حملاً لها على «لَمْ » فجزمت كما تجزم «لَمْ » . قال مكي : وهذا خطأ ، لأن «لم » تنفي الماضي وترُدُّ المستقبل ماضياً ، و«ما » تنفي الحال ، فلا يجوز أن يقع إحداهما موقع الأخرى لاختلاف مَعْنَيَيْهِمَا{[53882]} .

فصل

المعنى أن القرآن حكمة بالغة تامة قد بلغت الغاية . وقوله : { فَمَا تُغْنِي النذر } إن كانت «ما » نافية فالمعنى أن النذر لم يبعثوا ليغنوا ويلجئوا قومهم إلى الإيمان ، وإنما أرسلوا مبلغين كقوله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ }{[53883]} [ الشورى : 48 ] ويؤيد هذا قوله : «فَتَولَّ عَنْهُمْ » وإن كانت استفهامية فالمعنى : وأي شيءٍ تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم ؟ كقوله : { وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } أي إنك أتيت بما عليك من الدعوى فكذبوا بها وأنذرتهم بما جرى على المكذبين ، فلم يفدهم فهذه حكمة بالغة وما الذي تغني النذر غير هذا فلم يبق عليك شيء آخر ؟ فتول عنهم .


[53875]:قال بهذين الوجهين الإعرابيين مكي في المشكل 2/335 والزمخشري في الكشاف 4/36 وأبو البقاء في التبيان 1192، وأبو حيان في البحر 174.
[53876]:ونسبها أبو حيان لليماني. انظر المرجع السابق والكشاف أيضا.
[53877]:الكشاف المرجع السابق.
[53878]:أي صاحب الحال.
[53879]:أخذه من الكشافِ للزمخشري السابق أيضا.
[53880]:في قوله: "هذا نذير من النّذُر الأولى".
[53881]:الياء وهمزة الوصل.
[53882]:قاله في مشكل الإعراب له 2/336 و335.
[53883]:وانظر هذا كله في تفسير الإمام الرازي 15/33.