فأما قصة موسى فيبدؤها السياق هنا من مرحلة التكذيب والتحدي ، وينهيها عند غرق فرعون وجنوده ، على نطاق أوسع مما في قصة نوح ، ملماً بالمواقف ذات الشبه بموقف المشركين في مكة من الرسول - [ ص ] - وموقف القلة المؤمنة التي معه .
وهذه الحلقة المعروضة هنا من قصة موسى ، مقسمة إلى خمسة مواقف ، يليها تعقيب يتضمن العبرة من عرضها في هذه السورة على النحو الذي عرضت به . . وهذه المواقف الخمسة تتتابع في السياق على هذا النحو :
( ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا ، فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين . فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا : إن هذا لسحر مبين . قال موسى : أتقولون للحق لما جاءكم ، أسحر هذا ? ولا يفلح الساحرون . قالوا : أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ، وتكون لكما الكبرياء في الأرض ? وما نحن لكما بمؤمنين ) . .
والآيات التي بعث بها موسى إلى فرعون وملئه هي الآيات التسع المذكورة في سورة الأعراف . ولكنها لا تذكر هنا ولا تفصل لأن السياق لا يقتضيها ، والإجمال في هذا الموضع يغني . والمهم هو تلقي فرعون وملئه لآيات اللّه :
يقول تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا } من بعد تلك الرسل { مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي : قومه . {[14341]} { بِآيَاتِنَا } أي : حجَجنا وبراهيننا ، { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } أي : استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له ، { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ } كأنهم - قبَّحهم الله - أقسموا على ذلك ، وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان ، كما قال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] .
{ قَاَلَ } لهم { مُوسَى } منكرا عليهم : { أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } أي : تثنينا { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : الدّين الذي كانوا عليه ، { وَتَكُونَ لَكُمَا } أي : لك ولهارون { الْكِبْرِيَاء } أي : العظمة والرياسة { فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } .
وكثيرًا ما يذكر الله تعالى قصة موسى ، عليه السلام ، مع فرعون في كتابه العزيز ؛ لأنها من أعجب القصص ، فإن فرعون حَذر من موسى كل{[14342]} الحذر ، فسخره القدر أن رَبَّى هذا الذي يُحذَّر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ، ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم ، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم ، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده{[14343]} ويرجع إليه ، هذا ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان ، فجاءه برسالة الله ، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه{[14344]} السلام ، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية ، والنفس الخبيثة الأبية ، وقوى رأسه وتولّى بركنه ، وادعى ما ليس له ، وتجهرم على الله ، وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل ، والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون ، ويحوطهما ، بعنايته ، ويحرسهما بعينه التي لا تنام ، ولم تزل{[14345]} المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا{[14346]} بعد شيء ، ومرة{[14347]} بعد مرة ، مما يبهر العقول ويدهش الألباب ، مما لا يقوم له شيء ، ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله ، وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها ، وصمم فرعون وَمَلَؤه - قبحهم الله - على التكذيب بذلك كله ، والجحد والعناد والمكابرة ، حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرَد ، وأغرقهم في صبيحة{[14348]} واحدة أجمعين ، { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 45 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مّوسَىَ وَهَارُونَ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مّجْرِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ثم بعثنا من بعد هؤلاء الرسل الذين أرسلناهم من بعد نوح إلى قومهم موسى وهارون ابني عمران إلى فرعون مصر ومَلِئه ، يعني : وأشراف قومه وسادتهم ، بآيِاتنَا يقول : بأدلتنا على حقيقة ما دعوهم إليه من الإذعان لله بالعبودة ، والإقرار لهما بالرسالة . فْاسَتكُبروا ، يقول : فاستكبروا عن الإقرار بما دعاهم إليه موسى وهارون . وكَانوا قَوْما مُجْرمينَ ، يعني : آثمين بربهم بكفرهم بالله تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم بعثنا من بعدهم} من بعد الأمم،
{موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا} يعني بعلاماتنا اليد والعصا...
{فاستكبروا} يعني فتكبروا عن الإيمان،
{وكانوا قوما مجرمين} يعني كافرين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد هؤلاء الرسل الذين أرسلناهم من بعد نوح إلى قومهم موسى وهارون ابني عمران إلى فرعون مصر "ومَلِئه"، يعني: وأشراف قومه وسادتهم، "بآيِاتنَا "يقول: بأدلتنا على حقيقة ما دعوهم إليه من الإذعان لله بالعبودة، والإقرار لهما بالرسالة. "فْاسَتكُبروا"، يقول: فاستكبروا عن الإقرار بما دعاهم إليه موسى وهارون. "وكَانوا قَوْما مُجْرمينَ"، يعني: آثمين بربهم بكفرهم بالله تعالى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فاستكبروا) هذا يدل أنهم قد عرفوا أن ما جاءهم الرسول من الآيات أنها آيات، لكنهم عاندوا، وكابروا، ولم يخضعوا في قبولها...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والملأ: الجماعة الذين هم وجوه القبيلة، مأخوذ من أنهم تملأ الصدورَ هيبتُهم عند منظرهم. والاستكبار: طلب الكبر من غير استحقاق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {فاستكبروا} عن قبولها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها. {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} كفاراً ذوي آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترأوا على ردّها.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
...وكثيرًا ما يذكر الله تعالى قصة موسى، عليه السلام، مع فرعون في كتابه العزيز؛ لأنها من أعجب القصص، فإن فرعون حَذر من موسى كل الحذر، فسخره القدر أن رَبَّى هذا الذي يُحذَّر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد، ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويرجع إليه، هذا ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان، فجاءه برسالة الله، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه السلام، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية، والنفس الخبيثة الأبية، وقوى رأسه وتولّى بركنه، وادعى ما ليس له، وتجهرم على الله، وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل، والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون، ويحوطهما، بعنايته، ويحرسهما بعينه التي لا تنام، ولم تزل المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا بعد شيء، ومرة بعد مرة، مما يبهر العقول ويدهش الألباب، مما لا يقوم له شيء، ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله، وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها، وصمم فرعون وَمَلَؤه -قبحهم الله- على التكذيب بذلك كله، والجحد والعناد والمكابرة، حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرَد، وأغرقهم في صبيحة واحدة أجمعين، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وكان فرعون قد قوي ملكه وعظم سلطانه وعلا في كبريائه وطال تجبره على الضعفاء، فطمست أمواله وآثاره، وبقيت أحاديثه وأخباره،
ولهذا أفصح سبحانه بقصته فقال: دالاً على الطبع: {ثم بعثنا} أي وبعد زمن طويل من إهلاكنا إياهم بعثنا، ولعدم استغراق زمن البعد أدخل الجار فقال: {من بعدهم} أي من بعد أولئك الرسل {موسى و} كذا بعثنا {هارون} تأييداً له لأن اتفاق اثنين أقوى لما يقررانه وأوكد لما يذكرانه؛ ولما استقر في الأذهان بما مضى أن ديدن الأمم تكذيب من هو منهم حسداً له ونفاسة عليه، كان ربما ظن أن الرسول لو أتى غير قومه كان الأمر على غير ذلك، فبين أن الحال واحد في القريب والغريب، فقال مقدماً لقوله: {إلى فرعون وملئه} أي الأشراف من قومه، فإن الأطراف تبع لهم {بآياتنا} أي التي لا تكتنه عظمتها لنسبتها إلينا، فطبعنا على قلوبهم {فاستكبروا} أي طلبوا الكبر على قبول الآيات وأوجدوا ما يدل عليه من الرد بسبب انبعاثه إليهم عقب ذلك {وكانوا} أي جبلة وطبعاً {قوماً مجرمين} أي طبعهم قطع ما ينبغي وصله ووصل ما ينبغي قطعه، فلذلك اجترأوا على الاستكبار مع ما فيها أيضاً من شديد المناسبة لما تقدم من قول الكافرين {هذا سحر مبين} في نسبة موسى عليه السلام إليه وبيان حقيقة السحر في زواله وخيبته متعاطية لإفساده إلى غير ذلك من الأسرار التي تدق عن الأفكار، هذا إلى ما ينظم إليه من مناسبة ما بين إهلاك القبط وقوم نوح بآية الغرق، وأنه لم ينفع أحداً من الفريقين معاينة الآيات ومشاهدة الدلالات البينات، بل ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه بعد تلك المعجزات الباهرة والبراهين الظاهرة، ثم اتبعهم فرعون بعد أن كانت انحلت عن حبسهم عراه، وتلاشت من تجبره قواه، وشاهد من الضربات ما يهد الجبال، ودخل في طلبهم البحر بحزات لا يقرب ساحتها الأبطال، لما قدره عليه ذو الجلال، ولم يؤمن حتى أتاه البأس حيث يفوت الإيمان بالغيب الذي هو شرط الإيمان، فلم ينفعه إيمانه مع اجتهاده فيه وتكريره لفوات شرطه إجابة لدعوة موسى عليه السلام، ثم إن بني إسرائيل كانوا قبل مجيء موسى عليه السلام على منهاج واحد. فما اختلفوا إلا بعد مجيء العلم إليهم وبيان الطريق واضحة لديهم، ولهذا المراد ذكر هنا هارون عليه السلام لأن من أعظم مقاصد السورة المنع من طلب الآيات لمن بعد الإيمان عند الإتيان بها، إشارة إلى أن القول من الإثنين أوكد، ومع ذلك فلم يصدق من حكم القدير بشقاوته، كل ذلك حثاً على الرضا والتسليم، ووكل الأمر إلى الرب الحكيم، فمهما أمر به قبل، وما أعرض عنه ترك السؤال فيه رجاء تدبيره بأحسن التدبير وتقديره ألطف المقادير.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
{وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} أي: كانوا ذوي إجرام عظام، وآثام كبيرة، فبسبب ذلك اجترأوا على ردّها؛ لأن الذنوب تحول بين صاحبها وبين إدراك الحق، وإبصار الصواب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون وملئه ملخصة هنا في 19 آية مفصلة مرتبة كما نبينه في تفسيرها، وهذه الأربع منها في استنكار فرعون وملئه عن الإيمان وزعمهم أن آيات الله لموسى من السحر، وتعليل تكذيبهم له بأمرين: أحدهما أن اتباعه تحويل لهم عن التقاليد الموروثة عن الآباء، والثاني أنه يسلب سلطانهم منهم وينفرد هو وأخوه بما يتمتعون به من الكبرياء في الأرض، وهذا بمعنى ما تقدم من قصة نوح المختصرة في هذه السورة. وهاك تفسيرهن باختصار:
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ} أي ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل الذين بعثناهم إلى أقوامهم وهارون إلى فرعون مصر وأشراف قومه -الذين هم أركان دولته- وإلى قومهم القبط بالتبع لهم؛ لأنهم كانوا مستعبدين لهم يكفرون بكفرهم، ويؤمنون بإيمانهم إن آمنوا {بِآيَاتِنَا} أي بعثناهما مؤيدين بآياتنا التسع المفصلة في سورة الأعراف وغيرها.
{فَاسْتَكْبَرُواْ وكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} أي فاستكبر فرعون وملؤه، أي أعرضوا عن الإيمان كبرا وعلوا مع علمهم بأن ما جاء به هو الحق، لما كانوا عليه من سعة العلم وصناعة السحر، وكانوا قوما راسخين في الإجرام -وهو الظلم والفساد في الأرض- كما قال تعالى في سورة النمل {و جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ثم} للتراخي الرتبي لأنّ بعثة موسى وهارون عليهما السلام كانت أعظم من بعثة من سبقهما من الرسل، وخصَّت بعثة موسى وهارون بالذكر لأنها كانت انقلاباً عظيماً وتطوراً جديداً في تاريخ الشرائع وفي نظام الحضارة العقليَّة والتشريعيَّة، فإن الرسل الذين كانوا قبل موسى إنما بعثوا في أمم مستقلَّة، وكانت أديانهم مقتصرة على الدعوة إلى إصلاح العقيدة، وتهذيب النفوس، وإبطال ما عظم من مفاسدَ في المعاملات، ولم تكن شرائع شاملة لِجميع ما يُحتاج إليه من نظم الأمة وتقرير حاضرها ومستقبلها.
فأمَّا بعثة موسى فقد أتت بتكوين أمَّة، وتحريرها من استعباد أمة أخرى إياها، وتكوين وطن مستقل لها، وتأسيس قواعد استقلالها، وتأسيس جامعة كاملة لها، ووضع نظام سياسة الأمَّة، ووضع ساسة يدبرون شؤونها، ونظام دفاع يدفع المعتدين عليها من الأمم، ويمكِّنها من اقتحام أوطان أمم أخرى، وإعطاء كتاب يشتمل على قوانين حياتها الاجتماعية من كثير نواحيها، فبعثة موسى كانت أوّل مظهر عام من مظاهر الشرائع لم يسبق له نظير في تاريخ الشرائع ولا في تاريخ نظام الأمم، وهو مع تفوّقه على جميع ما تقدّمه من الشرائع قد امتاز بكونه تلقينا من الله المطَّلع على حقائق الأمور، المريد إقرار الصَّالح وإزالة الفاسد.
وجعل موسى وهارون مبعوثين كليهما من حيث إنّ الله استجاب طلب موسى أن يجعل معه أخاه هارون مؤيِّداً ومُعرباً عن مقاصد موسى فكان بذلك مأموراً من الله بالمشاركة في أعمال الرسالة، وقد بينته سورة القصص، فالمبعوث أصالة هو موسى وأما هارون فَبُعِثَ معيناً له وناصراً، لأنّ تلك الرّسالة كانت أوّل رسالة يصحبها تكوين أمة.
وفرعون مَلك مصر، وقد مضى الكلام عليه عند قوله تعالى: {ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه} في سورة [الأعراف: 103]، وعلى صفة إرسال موسى إلى فرعون وملئه... والمرَاد بالملأ خاصَّةُ الناس وسادتُهم وذلك أنّ موسى بعث إلى بني إسرائيل وبعث إلى فرعون وأهل دولته ليطلقوا بني إسرائيل.
والسِّين والتَّاء في {استكبروا} للمبالغة في التكبّر، والمراد أنَّهم تكبَّروا عن تلقي الدعوة من موسى، لأنَّهم احتقروه وأحالوا أن يكون رسولاً من الله وهو من قوم مستعبَدين استعبدهم فرعون وقومه، وهذا وجه اختيار التَّعبير عن إعراضهم عن دعوته بالاستكبار كما حكى الله عنهم فقالوا: {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} [المؤمنون: 47]. وتفريع {استكبروا} على جملة {بعثنا} يدلُّ على أنّ كل إعراض منهم وإنكار في مدة الدعوة والبعثة هو استكبَار.
وجملة: {وكانوا قوماً مجرمين} في موضع الحال، أي وقد كان الإجرام دأبهم وخُلقهم فكان استكبارهم على موسى من جملة إجرامهم.
والإجرام: فعل الجُرم، وهو الجناية والذّنْب العظيم. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وكذلك نجزي المجرمين} في سورة [الأعراف: 40].
وقد كان الفراعنة طُغاة جبابرة فكانوا يعتبرون أنفسهم آلهة للقبط وكانوا قد وضعوا شرائع لا تخلو عن جور، وكانوا يستعبدون الغرباء، وقد استعبدوا بني إسرائيل وأذلوهم قروناً فإذا سألوا حقهم استأصلوهم ومثلوا بهم وقتلوهم، كما حكى الله عنهم {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} [القصص: 4]، وكان القبط يعتقدون أوهاماً ضالة وخرافات، فلذلك قال الله تعالى: {وكانوا قوماً مجرمين}، أي فلا يستغرب استكبارهم عن الحق والرّشاد، ألا ترى إلى قولهم في موسى وهارون {إنّ هذان لَساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى} [طه: 63] فأغراهم الغرور على أن سموا ضلالهم وخورهم طريقة مثلى.
وعبر ب {قوماً مجرمين} دون كانوا مجرمين للوجه الذي تقدم في سورة البقرة وفي مواضع من هذه السورة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وهذه القصة تأتي بصفة خاصة في عدة سور من القرآن الكريم، لحكم إلهية في ذلك، ولعل من جملة هذه الحكم تذكير المسلمين باستمرار، بما مر به بنو إسرائيل من التقلبات والأطوار، وما أوقعوا فيه العالم من فساد وإباحية واستهتار، وتوجيه أنظار المسلمين وغيرهم، إلى وجوب الحذر من هذا العنصر الناقم على غيره، لما فيه من الأضرار والأخطار... والمهم من قصة موسى مع فرعون في هذا السياق هو تعريف المسلمين بأن السر في هلاك فرعون وقومه هو ما كان عليه فرعون من كبر واستعلاء، وما كان عليه هو وقومه من ظلم وإجرام، وما حاولوه من إخفاء الحق عن طريق السحر والشعوذة...