حكمة بالغة : واصلةٌ غايةَ الإحكام والإبداع .
فما تُغني النذر : فما يفيد المنذِرون لمن انصرف عنهم .
وهو { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِي النذر } . إنه حكمةٌ عظيمة بالغةٌ غايتها في الهداية والإرشاد إلى طريق الحقّ لو أنهم فكّروا واستعملوا عقولهم ، ولكن أيّ نفعٍ تفيد النذُر لمن اتَّبع هواه وانصرف عنها ! ؟ .
{ حكمة بالغة } : أي الذي جاءهم من الأنباء هو حكمة بالغة أي تامة .
{ فما تغن النذر } : أي عن قوم كذبوا واتبعوا أهواءهم لا تغن شيئاً .
والحكمة القول الذي يمنع صاحبه من التردي والهلاك بصرفه عن أسباب ذلك . وقوله تعالى { فما تغن النذر } أي عن قوم كذبوا بالحق لما جاءهم واتبعوا أهواءهم ولم يتبعوا هدى ربهم ولا عقولهم .
وذلك { حِكْمَةٌ } منه تعالى { بَالِغَةٌ } أي : لتقوم حجته على المخالفين{[926]} ولا يبقى لأحد على الله حجة بعد الرسل ، { فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } كقوله تعالى : { وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ لا يؤمنوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ }
قوله تعالى : " حكمة بالغة " يعني القران وهو بدل من " ما " من قوله : " ما فيه مزدجر " ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف ، أي هو حكمة . " فما تغن النذر " إذا كذبوا وخالفوا كما قال الله تعالى : " وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون{[14450]} " [ يونس : 101 ] ف " ما " نفي أي ليست تغني عنهم النذر . ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى التوبيخ ، أي فأي شيء تغني النذر عنهم وهم معرضون عنها ، و " النذر " يجوز أن تكون بمعنى الإنذار ، ويجوز أن تكون جمع نذير .
ولما كان ما فيه ذلك قد لا يكون محكماً ، بينه بقوله : { حكمة } عظيمة { بالغة } أي لها معظم البلوغ إلى منتهى غايات الحكمة لصحتها وطهارتها ووضوحها ، ففيها مع الزجر ترجية ومواعظ وأحكام ودقائق تجل عن الوصف . ولما تسبب عنها انزجارهم ، سبب عن ذلك قوله : { فما } نفياً صريحاً أو باستفهام إنكاري موبخ { تغن النذر * } الإنذارات والمنذرون والأمور المنذر بها - إنما المعني بذلك هو الله تعالى ، فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن ، ولعل الإشارة بإسقاط يا " تغني " بإجماع المصاحف من غير موجب في اللفظ إلى أنه كما سقطت غاية أحرف الكلمة سقطت نمرة الإنذار وهو القبول .
قوله : { حكمة بالغة فما تغن النذر } حكمة ، مرفوع على أنه بدل من " ما " أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، وتقديره : حكمة بالغة{[4395]} والمراد بالحكمة البالغة القرآن . فهو الحكيم بكل ما تضمنه من عظيم الأخبار والأفكار والأحكام والعبر فليس له فيه من خلل ولا نقص ولا ضعف بل إنه الغاية في سمو الأحكام والمعاني وكمال المواعظ والمقاصد . قوله : { فما تغن النذر } ما ، نافية . أي فليست تغني عنهم النذر شيئا . فهم لا ينتفعون بالنواهي والزواجر والمواعظ والآيات لشدة إعراضهم و فرط تكذيبهم . و قيل : ما ، استفهامية . فيكون المعنى : فأيّ شيء تغني عنهم النذر وهم معرضون ، موغلون في الشرك ، جامحون نحو الطغيان والباطل . والنذر ، جمع نذير ، وهو من الإنذار أي الإبلاغ في تحذير وتخويف .