وذلك حين يرون جمعهم فتعجبهم قوتهم ، ويغترون بتجمعهم ، فيقولون : إنا منتصرون لا هازم لنا ولا غالب ?
هنا يعلنها عليهم مدوية قاضية حاسمة :
( سيهزم الجمع ويولون الدبر ) . .
فلا يعصمهم تجمعهم ، ولا تنصرهم قوتهم . والذي يعلنها عليهم هو القهار الجبار . . ولقد كان ذلك . كما لا بد أن يكون !
قال البخاري بإسناده إلى ابن عباس - : إن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال وهو في قبة له يوم بدر : " أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبدا " . فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده ، وقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك ! فخرج وهو يثب في الدرع ، وهو يقول : ( سيهزم الجمع ويولون الدبر . . . ) .
وفي رواية لابن أبي حاتم بإسناده إلى عكرمة ، قال : لما نزلت( سيهزم الجمع ويولون الدبر )قال عمر : أي جمع يهزم ? أي أي جمع يغلب ? قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يثب في الدرع ، وهو يقول : ( سيهزم الجمع ويولون الدبر ) . فعرفت تأويلها يومئذ !
قوله : { سيهزم الجمع ويولّون الدبر } والمراد بالجمع كفار مكة . فقد أخبر الله بانهزام جمعهم وانكسار شوكتهم وتفريق شملهم وتوليهم هاربين في بدر . وقد كان ذلك . وهذه واحدة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم . فقد روي عن سعد بن أبي وقاص : لما نزل قوله تعالى : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } كنت لا أدري أي الجمع ينهزم ، فلما كان بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول : " اللهم إن قريشا جاءتك تحادك وتحاد رسولك بفخرها وخيلائها فأخنهم{[4413]} الغداة " ثم قال : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } فعرفت تأويلها . وقال ابن عباس كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين ، فهذه الآية مكية .
وهذه حقيقة يستيقنها كل متدبر مدكر من المسلمين . وهي حقيقة ما ينبغي أن تغيب عن أذهان الداعين إلى دين الله على بصيرة . وهي أن الكفر مهما طغى واشتد وبغى فإنه لا محالة صائر إلى التبدد ، والاندثار . وكذلك المشركون الظالمون من أعداء الله والحق ، أعداء الإسلام والمسلمين فإنهم مهما اشتدت صولتهم واستطالت شوكتهم واستطار شأنهم وعزهم ، وهاج فيهم الغرور والاستكبار وحب السيطرة والاستعلاء فإنهم مهزومون مدبرون أنذال إذا اصطدم غرورهم وعجرفتهم بوحدة المسلمين واستمساكم بعقيدة الإسلام الراسخة المتينة . لا جرم أن المسلمين وهم يمضون متوادين متعاونين متآزرين وقد غمرت قلوبهم نفحة العقيدة والتقوى ، ولم يرتضوا عن منهج الإسلام بديلا ولم تفرقهم الأهواء والخلافات والخصومات ، فإنهم منصورون بعون الله وتوفيقه ، وأن جحافل الكافرين على اختلاف أجناسهم ومللهم ، وعلى تعاظم جموعهم وأعدادهم وعساكرهم ، لا محالة صائرون إلى الخزي والهزيمة والتبدد . وليس على المسلمين في ضوء هذه الحقيقة إلا أن يتنادوا متماسكين فيتلاقوا حول عقيدتهم الصلبة ومنهج الله العظيم القويم ، فإنهم والحالة هذه منصورون ظاهرون أعزة ، وأن الكافرين الظالمين المعتدين مهزومون مولون الدبر ، يجرجرون الخسران والعار .