الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{سَيُهۡزَمُ ٱلۡجَمۡعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ} (45)

فرد الله عليهم فقال : " سيهزم الجمع " أي جمع كفار مكة ، وقد كان ذلك يوم بدر وغيره . وقراءة العامة " سيهزم " بالياء على ما لم يسم فاعله " الجمع " بالرفع . وقرأ رويس عن يعقوب " سنهزم " بالنون وكسر الزاي " الجمع " نصبا . " ويولون الدبر " قراءة العامة بالياء على الخبر عنهم . وقرأ عيسى وابن إسحاق ورويس عن يعقوب " وتولون " بالتاء على الخطاب . و " الدبر " اسم جنس كالدرهم والدينار فوحد والمراد الجمع لأجل رؤوس الآي . وقال مقاتل : ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال : نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه ، فأنزل الله تعالى : " نحن جميع منتصر . سيهزم الجمع ويولون الدبر " . وقال سعيد بن جبير قال سعد بن أبي وقاص : لما نزل قوله تعالى : " سيهزم الجمع ويولون الدبر " كنت لا أدرى أي الجمع ينهزم ، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول : اللهم إن قريشا جاءتك تحادُّك وتحاد رسولك بفخرها وخيلائها{[14498]} فأخنهم الغداة - ثم قال - " سيهزم الجمع ويولون الدبر " فعرفت تأويلها . وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر . أخنى عليه الدهر : أي أتى عليه وأهلكه ، ومنه قول النابغة :

أَخْنَى عليه الذي أَخْنَى على لُبَدِ

وأخنيت عليه : أفسدت . قال ابن عباس : كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين ، فالآية على هذا مكية . وفي البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب : " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " . وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر : ( أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا ) فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال : حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك ، وهو في الدرع فخرج وهو يقول : " سيهزم الجمع ويولون الدبر . بل الساعة موعدهم " يريد القيامة .


[14498]:في الأصول: "بخيلها" وهو تحريف والتصويب من سيرة ابن هشام.