والآن ينتهي هذا الاستعراض في صفحة الكون المنظور ، وتطوى صفحة الخلق الفاني ، وتتوارى أشباح الخلائق جميعا ، ويفرغ المجال من كل حي ، ويتجلى وجه الكريم الباقي ، متفردا بالبقاء ، متفردا بالجلال ؛ وتستقر في الحس حقيقة البقاء ، وهو يشهد ظلال الفناء :
( كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? ) . .
وفي ظل هذا النص القرآني تخفت الأنفاس ، وتخشع الأصوات ، وتسكن الجوارح . . . وظل الفناء يشمل كل حي ، ويطوي كل حركة ، ويغمر آفاق السماوات والأرض . .
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( 26 ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ( 27 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 28 ) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ( 29 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 30 ) }
ذو الجلال والإكرام : ذو العظمة والكبرياء ، والتفضل بأنعمه على العباد .
26 ، 27 ، 28- { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
جميع ما على وجه الأرض يفنى ، فالفناء يعمّ كل من في الكون .
قال تعالى : { كلّ شيء هالك إلاّ وجهه ، له الحكم وإليه تُرجعون } . ( القصص : 88 ) .
أي : أن ملائكة السماء تَفْنى ، وكذلك الإنس والجنّ يموتون ، وذات الله باقية خالدة بلا فناء ، لا أوّل لبدايتها ، ولا آخر لنهايتها ، وهو صاحب الفضل والإنعام على عباده ، فبعد الفناء يكون البعث ، ويكون البقاء في نعيم الجنة للمتقين ، وفي عذاب النار للكافرين .
وفي الموت أنعم متعددة ، منها الراحة من المرض وأرذل العمر ، وبعد الموت تتجدد الأجيال ، وتحيا الذرية وتكبر ، ثم تهرم وتموت ، ولو استمرت الحياة لضاقت الأرض بأهلها ، وصار فوق كل قدم أكثر من مائة قدم .
ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** وكل نعيم لا محالة زائل
فلو أنَّا إذا متنا تركنا *** لكان الموت راحة كل حي
ولكنّا إذا متنا بعثنا *** ونسأل بعد ذا عن كل شي
والآية بعد ذلك تنطق بالرهبة والحقيقة الصامتة ، فكل ما تراه على وجه الأرض معرض للفناء والموت : الإنس والجن ، والطير والوحوش ، والزواحف والحشرات ، والزرع والأنهار والأشجار ، بل وكل من في السماوات من الملائكة ، والشموس والأقمار ، والنجوم والأبراج والأفلام ، كل ذلك يشمله الفناء والهلاك .
قال تعالى : { كلّ شيء هالك إلاّ وجهه ، له الحكم وإليه تُرجعون } . ( القصص : 88 ) .
وذلك يدعونا إلى التأمل والنظر ، والاعتبار والعمل ، وإذا كانت الدنيا فانية فإن الآخرة باقية ، ومن الواجب إيثار ما يبقى على ما يفنى ، أي : يجب إيثار العمل الصالح ، وطاعة الله تعالى ، واجتناب نواهيه .
قال تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } . ( الأعلى : 16-19 ) .
صفتان من صفات الله ، وهما الجلال والإكرام ، أي العظمة والكبرياء ، وفي الحديث الذي رواه الترمذي ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام " viii . أي : الزموا ذلك في الدعاء .
ومن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم : " يا حي يا قيوم ، يا بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت ، برحمتك نستغيث ، أصلح لنا شأننا كله ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أحد من خلقك " ix .
وفي معنى الآية قوله تعالى : { كلّ شيء هالك إلاّ وجهه ، له الحكم وإليه تُرجعون } . ( القصص : 88 ) .
{ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
و سبحانه الخالق ، القابض الباسط ، المحيي المميت ، المعز المذل ، فالناس جميعا تتساوى في الفناء ثم تبعث على نيَّاتها ، فيكافئ الله المطيع بالثواب ، ويعاقب العاصي بعدل الجزاء ، وفي ذلك نعمة أيّ نعمة .
قال تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرّا يره } . ( الزلزلة : 7-8 ) .
ولله الفضل في بدء الخلق ، ثم في نعمة الرزق ، ثم في نعمة الموت والبعث ، فبأي نعمة من هذه النعم تكذبان يا معشر الجن والإنس ؟ اللهم لا بشيء من نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد .
وصدق الله العظيم إذ يقول : { الله الذي خلقكم ثمّ رزقكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم . . . } ( الروم : 40 ) .
ووجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت ، ومع الموت تستوي الأقدام ، والموت سبب النقلة من دار الفناء إلى دار الثواب والجزاء .
ولما أخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من المنافع من الأعيان{[61893]} والمعاني ، واستوفى الأرض بقسميها براً وبحراً ، مضمناً ذلك العناصر الأربعة التي{[61894]} أسس عليها المركبات ، وكان أعجب ما للمخلوق من الصنائع ما في البحر ، وكان راكبه في حكم العدم ، دل على أنه المتفرد بجميع ذلك بهلاك الخلق ، فقال مستأنفاً معبراً بالاسمية الدالة على الثبات وب { من } للدلالة على التصريح تهويلاً بفناء العاقل على فناء غير العاقل{[61895]} بطريق الأولى : { كل من عليها } أي الأرض بقسميها والسماء أيضاً { فان * } أي هالك ومعدوم بالفعل بعد أن كان هو وغيره من سائر ما سوى{[61896]} إليه ، وليس لذلك كله من ذاته إلا العدم ، فهو فان بهذا الاعتبار ، وإن كان موجوداً فوجوده بين عدمين أولهما أنه لم يكن ، وثانيهما أنه يزول ثم هو فيما بين{[61897]} ذلك يتعاوره {[61898]}الإيجاد والإفناء في{[61899]} حين من أحواله وأعراضه وقواه ، وأسباب الهلاك محيطة به حساً ومعنى وهو لا يراها كما أنها محيطة بمن هو في السفينة من فوقه ومن تحته ومن جميع جهاته .
قوله تعالى : { كل من عليها فان 26 ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام 27 فبأي آلاء ربكما تكذبان 28 يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن 29 فبأي آلاء ربكما تكذبان } ذلك إعلان من الله كبير لا يحتمل الظن أو التردد ، يبين الله فيه أن كل من على الأرض من الأحياء صائر إلى الموت والفناء . ومما يعلم من الأدلة الأخرى أن سائر الأحياء في السماوات والأرض صائرون إلى الفناء . كقوله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } قال ههنا : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } .