القول في تأويل قوله تعالى : { وَبَشّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىَ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرّيّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لّنَفْسِهِ مُبِينٌ } .
يقول تعالى ذكره : وبشّرنا إبراهيم بإسحاق نبيا شكرا له على إحسانه وطاعته ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَبَشّرْناهُ بإسحَاقَ نَبِيّا مِنَ الصّالِحينَ قال : بشر به بعد ذلك نبيا ، بعد ما كان هذا من أمره لمّا جاد لله بنفسه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن داود ، عن عكرمة ، قال : قال ابن عباس : الذبيح إسحاق قال : وقوله : وَبَشّرْناهُ بإسحَاقَ نَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ قال بُشّر بنبوّته . قال : وقوله : وَوَهَبْنا لَهُ من رحمتنا أخاهُ هارُونَ نَبِيّا قال : كان هارون أكبر من موسى ، ولكن أراد وَهَبَ الله له نبوّته .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود يحدّث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في هذه الاَية وَبَشّرْناهُ بإسحَاقَ نَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ قال : إنما بشّره به نبيا حين فداه من الذبح ، ولم تكن البشارة بالنبوّة عند مولده .
حدثني الحسين بن يزيد الطحان ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قول الله : وَبَشّرْناهُ بإسحَاقَ نَبِيّا قال : إنما بُشّر بالنبوّة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَبَشّرْناهُ بإسحَاقَ نَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ قال : بُشّر إبراهيم بإسحاق .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَبَشّرْناهُ بإسحَاقَ نَبِيّا مِنَ الصّالِحينَ قال : بنبوّته .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن ضرار ، عن شيخ من أهل المسجد ، قال : بُشّر إبراهيم لسبع عشرة ومئة سنة .
هذه بشارة أخرى لإِبراهيم ومكرمة له ، وهي غير البشارة بالغلام الحليم ، فإسحاق غير الغلام الحليم . وهذه البشارة هي التي ذكرت في القرآن في قوله تعالى : { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } [ هود : 71 ] . وتسمية المبشَّر به إسحاقَ تحتمل أن الله عيّن له اسماً يسمّيه به وهو مقتضى ما في الإصحاح السابع عشر من « سفر التكوين » « سارة امرأتك تلِد ابناً وتدعو اسمه إسحاق » .
وتحتمل أن المراد : بشرناه بولدٍ الذي سمي إسحاق ، وهو على الاحتمالين إشارة إلى أن الغلام المبشر به في الآية قبل هذه ليس هو الذي اسمه إسحاق فتعين أنه الذي سُمي إسماعيل . ومعنى البشارة به البشارة بولادته له لأنّ البشارة لا تتعلق بالذوات بل تتعلق بالمعاني .
وانتصب { نبيئاً } على الحال من { إسحاق } ، فيجوز أن يكون حكاية للبشارة فيكون الحال حالاً مقدّراً لأن اتصاف إسحاق بالنبوءة بعد زمن البشارة بمدة طويلة بل هو لم يكن موجوداً ، فالمعنى : وبشَّرناه بولادة ولد اسمه إسحاق مقدراً حالُه أنه نبيء ، وعدم وجود صاحب الحال في وقت الوصف بالحال لا ينافي اتصافه بالحال على تقدير وجوده لأن وجود صاحب الحال غير شرط في وصفه بالحال بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به مع اعتبار معنى الحال لأن غايته أنه من استعمال اسم الفاعل في زمان الاستقبال بالقرينة ولا تكون الحال المقدرة إلا كذلك ، وطول زمان الاستقبال لا يتحدد ، ومنه ما تقدم في قوله تعالى : { ويأتينا فرداً } في سورة [ مريم : 80 ] .
واعلم أن معنى الحال المقدرة أنها مقدّر حصولها غير حاصلة الآن والمقدِّر هو الناطق بها ، وهي وصف لصاحبها في المستقبل وقيد لعاملها كيفما كان ، فلا تحتفل بما أطال به في « الكشاف » ولا بمخالفة البيضاوي له ولا بما تفرع على ذلك من المباحثات . وإن كان وضعاً معترضاً في أثناء القصة كان تنويهاً بإسحاق وكان حالاً حاصلة .
وقوله : { مِن الصالِحين } حال ثانية ، وذكرها للتنويه بشأن الصلاح فإن الأنبياء معدودون في زمرة أهله وإلا فإن كل نبيء لا بدّ أن يكون صالحاً ، والنبوءة أعظم أحوال الصلاح لما معها من العظمة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وبشّرنا إبراهيم بإسحاق نبيا شكرا له على إحسانه وطاعته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كان سأل ربه الولد بقوله: {رب هب لي من الصالحين} [الصافات: 100]. فاستجاب الله دعاءه، وبشّره بما ذكر، ثم أخبر أنه نبي من الصالحين. ويحتمل أن تكون البشارة في ولادة الولد الذي سأل ربه، ويحتمل أن بشّره بنبوته، أو بشّره بهما بالولادة وبالنبوّة جميعا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
يقول الله تعالى بعد أن ذكر قصة إبراهيم وولده الذى أخبر الله بذبحه على ما فسرناه، بشره بإسحاق ولدا له آخر، نعمة عليه مجددة لما فعل من المسارعة إلى ما أمره الله به وصبره على احتمال المشقة فيه، وبين أنه نبيا من الصالحين.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
الظاهر أن هذه بشارة غير تلك البشارة، وأن الغلام الحليم المبشر به إبراهيم هو إسماعيل، وأنه هو الذبيح لا إسحاق.
{من الصالحين} حال ثانية، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ، لأن كل نبي لا بد أن يكون من الصالحين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أتم قصته في أمر الذبيح، وشرع في ذكر ما جازاه به على ذلك، جعل منه أمر إسحاق عليه السلام فقال: {وبشرناه} أي جزاء على صبره في المبادرة إلى امتثال الأمر في إعدام إسماعيل عليه السلام {بإسحاق} مولوداً زيادة له بعد ما سلمنا إسماعيل عليه السلام حال كونه {نبياً} أي في قضائنا أو بوجوده مقدرة نبوته. ولما كان هذا اللفظ قد يطلق على المتنبئ، أزال إشكال هذا الاحتمال وإن كان واهياً بقوله: {من الصالحين} أي العريقين في رتبة الصلاح ليصلح لأكثر الأوصاف الصالحة.
{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} * {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ}
هذه العطاءات كلها نتيجة {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] لأن الابتلاء الذي وقع لسيدنا إبراهيم كان ابتلاءً مُركباً من مراحل ثلاث: فَقْد الولد الذي جاء على كِبَر، وأنْ يقتله بيده، ثم تاج هذه المراحل أنْ يُقتلَ ولده برؤيا منامية؛ لذلك جاءه الجزاء على قَدْر هذه العقبات في الابتلاء، {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107].
والفداء فِدَاء إسماعيل من الذبح فعاش إسماعيل، ثم زاده الله فأعطاه إسحاق {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] فهو أيضاً نبي، وفي آية أخرى قال سبحانه: {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] ويعقوب أيضاً نبي. إذن: كلُّ هذا الخير جاء ثمرة الاستسلام لله تعالى والرضا بحكمه... ثم يمتد هذا العطاء، فيقول سبحانه: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ} [الصافات: 113].
فلما تكلَّم الحق سبحانه عن الذرية، قال: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113] يعني: الذرية فيها هذا وذاك، الخير والشر.
هكذا عرضتْ لنا هذه الآيات قصة سيدنا إبراهيم على وجه الاختصار، حيث لم تتعرَّض لكل الأحداث..