البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَبَشَّرۡنَٰهُ بِإِسۡحَٰقَ نَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (112)

{ وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين } : الظاهر أن هذه بشارة غير تلك البشارة ، وأن الغلام الحليم المبشر به إبراهيم هو إسماعيل ، وأنه هو الذبيح لا إسحاق ؛ وهو قول ابن عباس ، وابن عمر ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ومحمد بن كعب القرظي ، والشعبي ، والحسن ، ومجاهد ، وجماعة من التابعين ؛ واستدلوا بظاهر هذه الآيات وبقوله عليه السلام : أنا ابن الذبيحين ، وقول الأعرابي له : يا ابن الذبيحين : فتبسم عليه السلام ، يعني إسماعيل ، وأباه عبد الله .

وكان عبد المطلب نذر ذبح أحد ولده ، فخرج السهم على عبد الله ، فمنعه أخواله وقالوا له : افد ابنك بمائة من الإبل ، ففداه بها .

وفيما أوحي الله لموسى في حديث طويل .

وأما إسماعيل ، فإنه جاد بدم نفسه .

وسأل عمر بن عبد العزيز يهودياً أسلم عن ذلك فقال : إن يهودياً ليعلم ، لكنهم يحسدونكم معشر العرب ، وكان قرنا الكبش منوطين في الكعبة .

وسأل الأصمعي أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي ، أين عزب عنك عقلك ؟ ومتى كان إسحاق بمكة ؟ وهو الذي بنى البيت مع أبيه ، والمنحر بمكة ؟ انتهى .

ووصفه تعالى بالصبر في قوله : { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين } وهو صبره على الذبح ؛ وبصدق الوعد في قوله :

{ إنه كان صادق الوعد } لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به .

وذكر الطبري أن ابن عباس قال : الذبيح إسماعيل ، ويزعم اليهود أنه إسحاق ، وكذبت اليهود .

ومن أقوى ما يستدل به أن الله تعالى بشر إبراهيم بإسحاق ، وولد إسحاق يعقوب .

فلو كان الذبيح إسحاق ، لكان ذلك الإخبار غير مطابق للواقع ، وهو محال في إخبار الله تعالى .

وذهبت جماعة إلى أن الذبيح هو إسحاق ، منهم : العباس بن عبد المطلب ، وابن مسعود ، وعلي ، وعطاء ، وعكرمة ، وكعب ، وعبيد بن عمير ، وابن عباس في رواية ، وكان أمر ذبحه بالشأم .

وقال عطاء ومقاتل : ببيت المقدس ؛ وقيل : بالحجاز ، جاء مع أبيه على البراق .

وقال عبيد بن عمير ، وابن عباس في رواية : وكان أمر ذبحه بالشأم ، كان بالمقام .

وقال ابن عباس : والبشارة في قوله : { وبشرناه بإسحاق } ، هي بشارة نبوته .

وقالوا : أخبر تعالى عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولداً ، ثم أتبع تلك البشارة بغلام حليم ، ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به ، ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف ، عليهما السلام : من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله .

ومن جعل الذبيح إسحاق ، جعل هذه البشارة بشارة بنبوته ، كما ذكرنا عن ابن عباس .

وقالوا : لا يجوز أن يبشره الله بولادته ونبوته معاً ، لأن الامتحان بذبحه لا يصح مع علمه بأنه سيكون نبياً .

ومن جعله إسماعيل ، جعل البشارة بولده إسحاق .

وانتصب نبياً على الحال ، وهي حال مقدرة .

فإن كان إسحاق هو الذبيح ، وكانت هذه البشارة بولادة إسحاق ، فقد جعل الزمخشري ذلك محل سؤال .

فإن قلت : فرق بين هذا وقوله : { فادخلوها خالدين } وذلك أن المدخول موجود مع وجود الدخول ، والخلود غير موجود معهما ، فقدرت مقدرين للخلود ، فكان مستقيماً .

وليس كذلك المبشر به ، فإنه معلوم وقت وجود البشارة ، وعدم المبشر به أوجب عدم حاله ، لأن الحال حلية لا تقوم إلا بالمحلي .

وهذا المبشر به الذي هو إسحاق ، حين وجد لم توجد النبوة أيضاً بوجوده ، بل تراخت عنه مدة طويلة ، فكيف يجعل نبياً حالاً مقدرة ؟ والحال صفة للفاعل والمفعول عند وجود الفعل منه أو به .

فالخلود ، وإن لم يكن صفتهم عند دخول الجنة ، فتقديرها صفتهم ، لأن المعنى : مقدرين الخلود .

وليس كذلك النبوة ، فإنه لا سبيل إلى أن تكون موجودة وقت وجود البشارة بإسحاق لعدم إسحاق .

قلت : هذا سؤال دقيق السلك ضيق المسلك ، والذي يحل الإشكال أنه لا بد من تقدير مضاف محذوف وذلك قوله : { وبشرناه } بوجود إسحاق نبياً ، أي بأن يوجد مقدرة نبوته ، فالعامل في الحال الوجود ، لا فعل البشارة ؛ وبذلك يرجع نظير قوله تعالى : { فادخولها خالدين } { من الصالحين } حال ثانية ، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ ، لأن كل نبي لا بد أن يكون من الصالحين . انتهى .