المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۚ إِنَّنِي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ} (2)

2- أرشد به الناس - أيها النبي - وقلْ لهم : لا تعبدوا إلا الله ، إنني مُرْسَلٌ منه لأنذركم بعذابه إن كفرتم ، وأُبشّركم بثوابه إن آمنتم وأطعتم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۚ إِنَّنِي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ} (2)

1

وماذا تضمنت ؟

إنه يذكر أمهات العقيدة وأصولها :

( أن لا تعبدوا إلا الله ) . . فهو توحيد الدينونة والعبودية والاتباع والطاعة .

( إنني لكم منه نذير وبشير ) . . فهي الرسالة ، وما تضمنته من نذارة وبشارة .

( وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) . . فهي العودة إلى الله من الشرك والمعصية ، إلى التوحيد والدينونة .

( يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ) . . فهو الجزاء للتائبين المستغفرين .

( وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) . . فهو الوعيد للمتولين .

( إلى الله مرجعكم ) . . فهي الرجعة إلى الله في الدنيا والآخرة .

( وهو على كل شيء قدير ) . . فهي المقدرة المطلقة والسلطان الشامل .

هذا هو الكتاب . أو هو آيات الكتاب . فهذه هي القضايا الهامة التي جاء ليقررها ويقيم عليها بناءه كله بعد تقريرها .

وما كان لدين أن يقوم في الأرض ، وأن يقيم نظاما للبشر ، قبل أن يقرر هذه القواعد .

فتوحيد الدينونة لله وحده هو مفرق الطريق بين الفوضى والنظام في عالم العقيدة ؛ وبين تحرير البشرية من عقال الوهم والخرافة والسلطان الزائف ، أو استعبادها للأرباب المتفرقة ونزواتهم ، وللوسطاء عند الله من خلقه ! وللملوك والرؤساء والحكام الذين يغتصبون أخص خصائص الألوهية - وهي الربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية - فيعبدون الناس لربوبيتهم الزائفة المغتصبة .

وما من نظام اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو أخلاقي أو دولي ، يمكن أن يقوم على أسس واضحة فاصلة ثابتة ، لا تخضع للهوى والتأويلات المغرضة ، إلا حين تستقر عقيدة التوحيد هكذا بسيطة دقيقة .

وما يمكن أن يتحرر البشر من الذل والخوف والقلق ؛ ويستمتعوا بالكرامة الحقيقة التي أكرمهم بها الله ، إلا حين يتفرد الله سبحانه بالربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية ، ويتجرد منها العبيد في كل صورة من الصور .

وما كان الخلاف على مدار التاريخ بين الجاهلية والإسلام ؛ ولا كانت المعركة بين الحق والطاغوت ، على ألوهية الله - سبحانه - للكون ؛ وتصريف أموره في عالم الأسباب والنواميس الكونية : إنما كان الخلاف وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس ، الذي يحكمهم بشرعه ، ويصرفهم بأمره ، ويدينهم بطاعته ؟

لقد كان الطواغيت المجرمون في الأرض يغتصبون هذا الحق ويزاولونه في حياة الناس ، ويذلونهم بهذا الاغتصاب لسلطان الله ، ويجعلونهم عبيدا لهم من دون الله . وكانت الرسالات والرسل والدعوات الإسلامية تجاهد دائما لانتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي الطواغيت ورده إلى صاحبه الشرعي . . الله سبحانه .

والله - سبحانه - غني عن العالمين . لا ينقص في ملكه شيئا عصيان العصاة وطغيان الطغاة . ولايزيد في ملكه شيئا طاعة الطائعين وعبادة العابدين . . ولكن البشر - هم أنفسهم - الذين يذلون ويصغرون ويسفلون حين يدينون لغير الله من عباده ؛ وهم الذين يعزون ويكرمون ويستعلون حين يدينون لله وحده ، ويتحررونمن العبودية للعبيد . . ولما كان الله - سبحانه - يريد لعباده العزة والكرامة والاستعلاء فقد أرسل رسله ليردوا الناس إلى عبادة الله وحده . وليخرجوهم من عبادة العبيد . . لخيرهم هم أنفسهم . . والله غني عن العالمين .

إن الحياة البشرية لا تبلغ مستوى الكرامة الذي يريده الله للإنسان إلا بأن يعزم البشر أن يدينوا لله وحده ، وأن يخلعوا من رقابهم نير الدينونة لغير الله . ذلك النير المذل لكرامة الإنسان في أية صورة قد كان !

والدينونة لله وحده تتمثل في ربوبيته للناس وحده . والربوبية تعني القوامة على البشر ، وتصريف حياتهم بشرع وأمر من عند الله ، لا من عند أحد سواه .

وهذا ما يقرر مطلع هذه السورة الكريمة أنه موضوع كتاب الله وفحواه :

( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير : ألا تعبدوا إلا الله ) . .

وهذا هو معنى العبادة كما يعرفه العرب في لغتهم التي نزل بها كتاب الله الكريم .

والإقرار بالرسالة أساس للتصديق بهذه القضايا التي جاءت الرسالة لتقريرها وكل شك في أن هذا من عند الله ، كفيل بتحطيم احترامها الملزم في عالم الضمير . والذين يظنون أنها من عند محمد - مهما أقروا بعظمة محمد - لا يمكن أن تنال من نفوسهم الاحترام الملزم ، الذي يتحرجون معه أن يتفلتوا منها في الكبير أو الصغير . . إن الشعور بأن هذه العقيدة من عند الله هو الذي يطارد ضمائر العصاة حتى يثوبوا في النهاية إلى الله ، وهو الذي يمسك بضمائر الطائعين ، فلا تتلجلج ولا تتردد ولا تحيد .

كما إن الإقرار بالرسالة هو الذي يجعل هناك ضابطا لما يريده الله من البشر . كي يتلقى البشر في كل ما يتعلق بالدينونة لله من مصدر واحد ، هو هذا المصدر . وكي لا يقوم كل يوم طاغوت مفتر يقول للناس قولا ، ويشرع للناس شرعا ، ثم يزعم أنه شرع الله وأمره ! بينما هو يفتريه من عند نفسه !

وفي كل جاهلية كان يقوم من يشرع الشرائع ، ومن يقرر القيم والتقاليد والعادات . . ثم يقول : هذا من عند الله ! ! !

وما يحسم هذه الفوضى وهذا الاحتيال على الناس باسم الله ، إلا أن يكون هناك مصدر واحد - هو الرسول - لقول الله .