{ 16 } { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ }
أي : وكذلك لما فصلنا في هذا القرآن ما فصلنا ، جعلناه آيات بينات واضحات ، دالات على جميع المطالب والمسائل النافعة ، ولكن الهداية بيد الله ، فمن أراد الله هدايته ، اهتدى بهذا القرآن ، وجعله إماما له وقدوة ، واستضاء بنوره ، ومن لم يرد الله هدايته ، فلو جاءته كل آية ما آمن ، ولم ينفعه القرآن شيئا ، بل يكون حجة عليه .
{ كذلك أنزلناه } والضمير في { أنزلناه } عائد على القرآن ، وجاءت هذه الضمائر هكذا لم يتقدم ذكر لشهرة المشار إليه نحو قوله تعالى : { حتى توارت بالحجاب }{[8325]} [ ص : 32 ] وغيره ، وقوله تعالى : { وأن } في موضع خير الابتداء والتقدير والأمر أن الله يهدي من يريد ، وهداية الله تعالى هي خلقه الرشاد والإيمان في نفس الإنسان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكذلك} يعني: وهكذا {أنزلناه} يعني: القرآن {ءايات بينات} يعني: واضحات {وأن الله يهدي} إلى دينه {من يريد}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وكَذلكَ أنْزَلْناهُ آياتٍ بَيّناتٍ" يقول تعالى ذكره: وكما بيّنت لكم حُجَجي على من جحد قدرتي على إحياء من مات من الخلق بعد فنائه فأوضحتها أيها الناس، كذلك أنزلنا إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذا القرآن "آيات بيّنات"، يعني دلالات واضحات، يهدين من أراد الله هدايته إلى الحقّ. "وأنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ "يقول جلّ ثناؤه: ولأن الله يوفق للصواب ولسبيل الحقّ من أراد، أنزل هذا القرآن آيات بيّنات.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ}: أي دلالات وعلامات نَصبَهَا الحقُّ سبحانه لعباده، فمن الآيات ما هو قضية العقل، ومنها ما هو قضية الخبر والنقل، ومنها ما هو تعريفات في أوقات المعاملات فما يجده العبد في حالاته من انغلاقِ، واشتداد قبضٍ، وحصول خسران، ووجوه امتحان.. لا شكَّ ولا مرية إذا أَخَلَّ بواجبٍ أو ألَمَّ بمحظور. أو تكون زيادة بَسْطٍ أو حلاوة طاعة، أو تيسير عسيرٍ من الأمور، أو تجدد إنعامٍ عند حصول شيءٍ من طاعاته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي: ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله {آيات بينات} و {أنّ الله يهدي} به الذين يعلم أنهم يؤمنون. أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى، أنزله كذلك مبيناً.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين سبحانه هذه الآيات المرئية، في هذه الأساليب العلية، هذا البيان الشافي الهادي بإعجاز حكمه، بين أنه معجز أيضاً بنظمه، فقال: {وكذلك} أي ومثل ما بينا هذه الآيات المرئية التي أنزلنا كلامنا لبيان حكمها وإظهار أسرارها {أنزلناه} أي الكلام كله بما لنا من العظمة الباهرة {آيات بينات} معجزاً نظمها، كما كان معجزاً حكمها.
ولما كان الكلام بيناً في أن التقدير: ليعلم إذا ضل ضال مع هذا البيان أن الله يضل من يريد، عطف عليه قوله: {وأن} أي وليعلم أن {الله} أي الموصوف بالإكرام، كما هو موصوف بالانتقام {يهدي} أي بآياته {من يريد} أي لتبين قدرته واختياره إزاحة لغم من يقول: إذا كانت الآيات المرئية والمسموعة في هذا الحد من البيان فما لأكثر الناس على ضلالهم يتخلف فيهم المسببات عن أسبابها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: وكذلك لما فصلنا في هذا القرآن ما فصلنا، جعلناه آيات بينات واضحات، دالات على جميع المطالب والمسائل النافعة، ولكن الهداية بيد الله، فمن أراد الله هدايته، اهتدى بهذا القرآن، وجعله إماما له وقدوة، واستضاء بنوره، ومن لم يرد الله هدايته، فلو جاءته كل آية ما آمن، ولم ينفعه القرآن شيئا، بل يكون حجة عليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بمثل هذا البيان لحالات الهدى والضلال، ولنماذج الهدى والضلال، أنزل الله هذا القرآن ليهتدي به من يفتح له قلبه، فيقسم الله له الهداية:
(وكذلك أنزلناه آيات بينات، وأن الله يهدي من يريد)..
وإرادة الله قد قررت سبق الهدى والضلال. فمن طلب الهدى تحققت إرادة الله بهدايته، وفق سنته، وكذلك من طلب الضلال إنما يفرد هنا حالة الهدى بالذكر، بمناسبة ما في الآيات من بيان يقتضي الهدى في القلب المستقيم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما تضمنت هذه الآيات تبيين أحوال الناس تجاه دعوة الإسلام بما لا يبقى بعده التباس عقبت بالتنويه بتبيينها، بأن شُبه ذلك التبيينُ بنفسه كناية عن بلوغه الغاية في جنسه بحيث لا يلحق بأوضح منه، أي مثلَ هذا الإنزال أنزلنا القرآن آيات بيّنات.
فالجملة معطوفة على الجُمل التي قبلها عطف غرض على غرض. والمناسبة ظاهرة، فهي استئناف ابتدائي. وعطف على التنويه تعليل إنزاله كذلك بأن الله يهدي من يريد هديه أي بالقرآن.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وأسلوب الآية أسلوب تسلية وتطمين، وقد تكرر في مواضع كثيرة من القرآن في مثل هذه المواقف. وعلى ضوء الآيات العديدة التي قررت أن الله إنما يهدي من ينيب إليه ومن يستمع القول فيتبع أحسنه، أي من حسنت نيته وصدقت رغبته في هذا الله...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وذكر كتاب الله بالطابع المميز للذكر الحكيم، وانه عبارة عن آيات بينات تقنع كل ذي عقل سليم، وتتجاوب مع كل فطرة سليمة، فمن جادل فيها فإنما يجادل عن جهل أو عناد أو نفاق، وذلك قوله تعالى هنا: {وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد}...
فإن رأيت في هذا التشريع الذي جاءك في القرآن ما يشق عليك أو يحول بينك وبين ما تشتهيه نفسك، فاعلم أنه من أعلى منك، من الله، وليس من مساو لك، يمكن أن تستدرك عليه أو تناقشه: لماذا هذا الأمر؟ ولماذا هذا النهي؟ فطالما أن الأمر يأتيك من الله فلا بد أن تسمع وتطيع ولا تناقش...
إذن: حجة كل أمر ليس أن نعلم حكمته، إنما يكفي أن نعلم الآمر به.
ومعنى: {آيات} أي: عجائب {بينات} واضحات. وسبق أن ذكرنا أن كلمة الآيات تطلق على معان ثلاثة: الآيات الكونية التي تثبت قدرة الله، وبها يستقر الإيمان في النفوس، ومنها الليل والنهار والشمس والقمر، والآيات بمعنى المعجزات المصاحبة للرسل لإثبات صدق بلاغهم عن الله، والآيات التي يتكون منها القرآن، وتسمى "حاملة الأحكام".
فالمعنى هنا {وكذلك أنزلناه آيات بينات} تحمل كلمة الآيات كل هذه المعاني، فآيات القرآن فيها الآيات الكونية، وفيها المعجزة، وهي ذاتها آيات الأحكام.
ثم يقول سبحانه: {وأن الله يهدي من يريد} وهذه من المسائل التي وقف الناس حولها طويلا: {يضل من يشاء ويهدي من يشاء.. (93)} [النحل]: وأمثالها تمسك بها من ليس لهم حظ من الهداية، يقولون: لم يرد الله لنا الهداية، فماذا نفعل؟ وما ذنبنا؟.
وهذه وقفة عقلية خاطئة، لأن الوقفة العقلية تقتضي أن تذكر الشيء ومقابله، أما هؤلاء فقد نبهوا العقل للتناقض في واحدة وتركوا الأخرى، فهي- إذن- وقفة تبريرية، فالضال الذي يقول: لقد كتب الله علي الضلال، فما ذنبي؟ لماذا لم يقل: الطائع الذي كتب الله له الهداية، لماذا يثيبه؟
فلماذا تركتم الخير وناقشتم في الشر؟.
والمتأمل في الآيات التي تتحدث عن مشيئة الله في الإضلال والهداية يجد أنه سبحانه قد بين من شاء أن يضله، وبين من شاء أن يهديه، اقرأ قوله تعالى: {إن الله لا يهدي القوم الكافرين (67)} [المائدة] إذن: كفره سابق لعدم هدايته وقوله: {إن الله لا يهدي القوم الفاسقين (6)} [المنافقون]. وقوله: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين (50)} [القصص]: إنما يهدي من آمن به، أما هؤلاء الذين اختاروا الكفر واطمأنوا إليه وركنوا، فإن الله تعالى يختم على قلوبهم، فلا يدخلها الإيمان، ولا يخرج منها الكفر، لأنهم أحبوه فزادهم منه كما زاد المؤمنين إيمانا: {والذين اهتدوا زادهم هدى.. (17)} [محمد]:
والهداية هنا بمعنى الدلالة على الخير، وسبق أن ضربنا لها مثلا، ولله تعالى المثل الأعلى: هب أنك تسلك طريقا لا تعرفه، فتوقفت عند جندي المرور وسألته عن وجهتك فدلك عليها، ووصف لك الطريق الموصل إليها. لكن، هل دلالته لك تلزمك أن تسلك الطريق الذي وصف لك؟
بالطبع أنت حر تسير فيه أو في غيره. فإذا ما حفظت لرجل المرور جميله وشكرته عليه، ولمس هو فيك الخير، فإنه يعينك بنفسه على عقبات الطريق، وربما ركب معك ليجتاز بك منطقة خطرة يخاف عليك منها. هذا معنى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (17)} [محمد].
أما لو تعاليت على هذا الرجل، أو اتهمته بعدم المعرفة بمسالك الطرق، فإنه يدعك وشأنك، ويضن عليك بمجرد النصيحة.
وهكذا.. الحق- سبحانه وتعالى- دل المؤمن ودل الكافر على الخير، المؤمن رضي بالله وقبل أمره ونهيه، وحمد الله على هذه النعمة، فزاده إيمانا وأعانه على مشقة العبادة، وجعل له نورا يسير على هديه، أما الكافر فقد تركه يتخبط في ظلمات كفره، ويتردد في متاهات العمى والضلال.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ} الهداية، ممن انفتح عقله وقلبه على الحق النازل في كتاب الله، وعاش مسؤولية الهداية بمتابعته لكل مفرداتها التي يتحرك بها الفكر في موارد الحق ومصادره، وفي ما يتنزّل به الوحي من آيات الله وشرائعه. وربما كان المعنى أن الله يهدي من يريد هدايته بما يهيئ له من أسباب الهداية في نفسه وفي حياته من خلال حركة الواقع من حوله على أساس قانون السببية، لأن من لم تتعلق إرادته بهدايته، فلا هادي له، فلا تكفي الآيات البيّنات في هداية من سمعها أو تأمّل فيها ما لم يرد الله هدايته.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد أوضحت الآيات السابقة أدلّة المعاد والبعث، كالمراحل التي يمرّ بها الجنين الإنساني ونموّ النباتات وإحياء الأرض بعد موتها، وأدلّة أُخرى على عدم نفع الأصنام وضرّها، وعرضت أعمال الذين يجعلون الدين وسيلة لبلوغ المنافع التافهة. ولكن هذه الأدلّة الواضحة والبراهين الدامغة لا تكفي لتقبّل الحقّ، بل لابدّ من استعداد ذاتي لذلك. ولهذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية: (وأنّ الله يهدي من يريد)...