أن لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض على اختيارهم ، آمنين من المؤمنين ، وبعد الأربعة الأشهر فلا عهد لهم ، ولا ميثاق .
وهذا لمن كان له عهد مطلق غير مقدر ، أو مقدر بأربعة أشهر فأقل ، أما من كان له عهد مقدر بزيادة على أربعة أشهر ، فإن الله يتعين أن يتمم له عهده إذا لم يخف منه خيانة ، ولم يبدأ بنقض العهد .
ثم أنذر المعاهدين في مدة عهدهم ، أنهم وإن كانوا آمنين ، فإنهم لن يعجزوا اللّه ولن يفوتوه ، وأنه من استمر منهم على شركه فإنه لا بد أن يخزيه ، فكان هذا مما يجلبهم إلى الدخول في الإسلام ، إلا من عاند وأصر ولم يبال بوعيد اللّه له .
{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } شوال وذي القعدة وذي الحجة والمحرم لأنها نزلت في شوال . وقيل هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر لأن التبليغ كان يوم النحر لما روي ( أنها لما نزلت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم ، وكان قد بعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه أميرا على الموسم فقيل له : لو بعث بها إلى أبي بكر فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني ، فلما دنا علي رضي الله تعالى عنه سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لحقه قال : أمير أو مأمور قال مأمور ، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحدثهم عن مناسكهم وقام علي رضي الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : أيها الناس إني رسول الله إليكم ، فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ) . ولعل قوله صلى الله عليه وسلم " لا يؤدي عني إلا رجل مني " ليس على العموم ، فإنه صلى الله عليه وسلم بعث لأن يؤدي عنه كثير لم يكونوا من عترته ، بل هو مخصوص بالعهود فإن عادة العرب أن لا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل منها ، ويدل عليه أنه في بعض الروايات " لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي " . { واعلموا أنكم غير مُعجزي الله } لا تفوتونه وإن أمهلكم . { وإن الله مُخزي الكافرين } بالقتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة .
{ براءة } رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذه الآيات براءة ، ويصح أن ترتفع بالابتداء والخبر في قوله : { إلى الذين } وجاز الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة فتعرفت تعريفاً ما ، وجاز الإخبار عنها ، وقرأ عيسى بن عمر «براءةً » بالنصب على تقدير التزموا براءة ففيها معنى الإغراء ، و { براءة } معناها تخلص وتبرؤ من العهود التي بينكم وبين الكفار البادئين بالنقض ، تقول برئت إليك من كذا ، فبرىء الله تعالى ورسوله بهذه الآية إلى الكفار من تلك العهود التي كانت ونقضها الكفار ، وقرأ أهل نجران «منِ الله » بكسر النون من «من » ، وهذه الآية حكم من الله عز وجل بنقض العهود والموادعات التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين طوائف المشركين الذين ظهر منهم أو تحسس من جهتهم نقض ، ولما كان عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لازما لأمته حسن أن يقول { عاهدتهم } قال ابن إسحاق وغيره من العلماء : كانت العرب قد وافقها{[5502]} رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً عاماً على أن لا يصد أحد عن البيت الحرام ونحو ذلك من الموادعات ، فنقض ذلك بهذه الآية وأجل لجميعهم أربعة أشهر ، فمن كان له مع النبي صلى الله عليه وسلم عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أشهر بلغ به تمامها ، ومن كان أمده أكثر من أربعة أشهر أتم له الأربعة الأشهر «يسيح فيها » في الأرض أي يذهب مسرحاً آمناً كالَّسْيح من الماء وهو الجاري المنبسط ومنه قول طرفة بن العبد : [ السريع ]
لو خفت هذا منك ما نلتني*** حتى نرى خيلاً أمامي تسيحْ{[5503]}
وهذا ينبىء عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشعر من الكفار نقضاً وتربصاً به إلا من الطائفة المستثناة ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : أول الأشهر الأربعة شوال وحينئذ نزلت الآية ، وانقضاؤها عند انسلاخ الأشهر الحرم وهو انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين يوماً فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم نزول الآية ، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان{[5504]} .
قال القاضي أبو محمد : اعترض هذا بأن الأجل لا يلزم إلا من يوم سمع ويحتمل أن البراءة قد كانت سمعت من أول شوال ، ثم كرر إشهارها مع الأذان يوم الحج الأكبر ، وقال السدي وغيره : بل أولها يوم الأذان وآخرها العشر من ربيع الآخر ، وهي الحرم استعير لها الاسم بهذه الحرمة والأمن الخاص الذي رسمه الله وألزمه فيها ، وهي أجل الجميع ممن له عهد وتحسس منه نقض وممن لا عهد له ، وقال الضحاك وغيره من العلماء : كان من العرب من لا عهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة ، وكان منهم من بينه وبينهم عهد وتحسس منهم النقض وكان منهم من بينه وبينهم عهد ولم ينقضوا .
فقوله { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } هو أجل ضربه لمن كان بينه وبينهم عهد وتحسس منهم نقضه ، وأول هذا الأجل يوم الأذان وآخره انقضاء العشر الأول من ربيع الآخر ، وقوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } ، هو حكم مباين للأول حكم به في المشركين الذين لا عهد لهم البتة ، فجاء أجل تأمينهم خمسين يوماً أولها يوم الأذان وآخرها انقضاء المحرم ، وقوله { إلى الذين عاهدتم } ، يريد به الذين لهم عهد ولم ينقضوا ولا تحسس منهم نقض ، وهم فيما روي بنو ضمرة من كنانة عاهد لهم المحسر بن خويلد وكان بقي من عهدهم يوم الأذان تسعة أشهر . وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : إنما أجل الله أربعة أشهر من كان عهده ينصرم عند انقضائها أو قبله ، والمعنى فقل لهم يا محمد سيحوا ، وأما من كان له عهد يتمادى بعد الأربعة الأشهر فهم الذين أمر الله لهم بالوفاء ،
وقوله { واعلموا أنكم غير معجزي الله } ، معناه واعلموا أنكم لا تفلتون الله ولا تعجزونه هرباً من عقابه ، ثم أعلمهم بحكمه بخزي الكافرين ، وذلك حتم إما في الدنيا وإما في الآخرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.