فلما كانوا جامعين لهذه الرذائل ، لا جرم حقت عليهم العقوبة ، ولما وقعوا فيها ، لم يكن لهم ناصر ينصرهم ، ولا مغيث ينقذهم ، ويوبخون عند ذلك بهذه الأعمال الساقطة { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } أي : أفلا يتفكرن في القرآن ويتأملونه ويتدبرونه ، أي : فإنهم لو تدبروه ، لأوجب لهم الإيمان ، ولمنعهم من الكفر ، ولكن المصيبة التي أصابتهم بسبب إعراضهم عنه ، ودل هذا على أن تدبر القرآن ، يدعو إلى كل خير ، ويعصم من كل شر ، والذي منعهم من تدبره أن على قلوبهم أقفالها .
{ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ } أي : أو منعهم من الإيمان ، أنه جاءهم رسول وكتاب ، ما جاء آبائهم الأولين ، فرضوا بسلوك طريق آبائهم الضالين ، وعارضوا كل ما خالف ذلك ، ولهذا قالوا ، هم ومن أشبههم من الكفار ، ما أخبر الله عنهم : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } فأجابهم بقوله : { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ } فهل تتبعون إن كان قصدكم الحق ، فأجابوا بحقيقة أمرهم { قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }
{ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 75 ) } .
يقول تعالى منكرًا على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم ، وتدبرهم له وإعراضهم عنه ، مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف ، لا سيما وآباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية ، حيث لم يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير ، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله إليهم بقبولها ، والقيام بشكرها وتفهمها ، والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار ، كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، ورضي عنهم .
وقال قتادة : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } إذًا والله يجدون{[20600]} في القرآن زاجرًا عن معصية الله لو تدبره القوم وعقلوه ، ولكنهم أخذوا بما تشابه ، فهلكوا عند ذلك .
الفاء لتفريع الكلام على الكلام السابق وهو قوله { بل قلوبهم في غمرة من هذا } إلى قوله { سامراً تهجرون } [ المؤمنون : 63 67 ] . وهذا التفريع معترض بين جملة { بل قلوبهم في غمرة من هذا } وجملة { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون } [ المؤمنون : 75 ] .
والمفرع استفهامات عن سبب إعراضهم واستمرار قلوبهم في غمرة إلى أن يحل بهم العذاب الموعودونه .
وهذه الاستفهامات مستعملة في التخطئة على طريقة المجاز المرسل لأن اتضاح الخطأ يستلزم الشك في صدوره عن العقلاء فيقتضي ذلك الشك السؤال عن وقوعه من العقلاء .
ومآل معاني هذه الاستفهامات أنها إحصاء لمثار ضلالهم وخطئهم ولذلك خصت بذكر أمور من هذا القبيل . وكذلك احتجاج عليهم وقطع لمعذرتهم وإيقاظ لهم بأن صفات الرسول كلها دالة على صدقه .
فالاستفهام الأول : عن عدم تدبرهم فيما يتلى عليهم من القرآن وهو المقصود بالقول أي الكلام ، قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن } [ النساء : 82 ] . والتدبر : إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نصبت له . وأصله أنه من النظر في دُبُر الأمر ، أي فيما لا يظهر منه للمتأمل بادىء ذي بدء . وقد تقدم عند قوله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً } في سورة النساء ( 82 ) .
والمعنى : أنهم لو تدبروا قول القرآن لعلموا أنه الحق بدلالة إعجازه وبصحة أغراضه ، فما كان استمرار عنادهم إلا لأنهم لم يدبروا القول . وهذا أحد العلل التي غمرت بهم في الكفر .
والاستفهام الثاني : هو المقدر بعد ( أم ) وقوله : { أم لم يعرفوا رسولهم } . ف ( أم ) حرف إضراب انتقالي من استفهام إلى غيره وهي ( أم ) المنقطعة بمعنى ( بل ) ويلزمها تقدير استفهام بعدها لا محالة . فقوله { جاءهم ما لم يأت آباءهم } تقديره : بل أجاءهم . والمجيء مجاز في الإخبار والتبليغ ، وكذلك الإتيان .
و ( ما ) الموصولة صادقة على دين . والمعنى : أجاءهم دين لم يأت آباءهم الأولين وهو الدين الداعي إلى توحيد الإله وإثبات البعث ، ولذلك كانوا يقولون : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } [ الزخرف : 22 ] . ولهذا قال الله تعالى { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } [ الزخرف : 23 ، 24 ] .
ثم إنه إن كان المراد ظاهر معنى الصلة وهي { ما لم يأت آباءهم الأولين } من أن الدين الذي جاءهم لا عهد لهم به ، تعين أن يكون في الكلام تهكم بهم إذ قد أنكروا ديناً جاءهم ولم يسبق مجيئه لآباءهم . ووجه التهكُّم أن شأن كل رسول جاء بدين أن يكون دينه أُنُفا ولو كان للقوم مثله لكان مجيئه تحصيل حاصل .
وإن كان المراد من الصلة أنه مخالف لما كان عليه آباؤهم لأن ذلك من معنى : لم يأت آباءهم ، كان الكلام مجرد تغليط ، أي لا اتجاه لكفرهم به لأنه مخالف لما كان عليه آباؤهم إذ لا يكون الدين إلا مخالفاً للضلالة ويكون في معنى قوله تعالى : { أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } [ الزخرف : 21 ، 22 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أفلم يدبروا القول} يعني: أفلم يستمعوا القرآن.
{أم جاءهم ما لم يأت آبائهم الأولين} يقول: قد جاء أهل مكة النذر، كما جاء آباءهم وأجدادهم الأولين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أفلم يتدبر هؤلاء المشركون تنزيل الله وكلامه، فيعلموا ما فيه من العبر، ويعرفوا حجج الله التي احتجّ بها عليه فيه؟
"أمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأتِ آباءَهُمُ الأَوّلِينَ" يقول: أم جاءهم أمر ما لم يأت من قبلهم من أسلافهم، فاستكبروا ذلك وأعرضوا، فقد جاءت الرسل من قبلهم، وأنزلت معهم الكتب. وقد يحتمل أن تكون «أم» في هذا الموضع بمعنى: «بل»، فيكون تأويل الكلام: أفلم يدبّروا القول؟ بل جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوّلين، فتركوا لذلك التدبر وأعرضوا عنه، إذ لم يكن فيمن سلف من آباءهم ذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أفلم يدبروا القول} قد ذكرنا أنه يخرج على وجهين:
أحدهما: على ترك التدبير فيه والتفكر، والإعراض عنه، أي لم يدبروا فيه ولم يتفكروا.
والثاني: على إيجاب حقيقة التدبر والتفكر، أي قد تدبروا فيه، وعرفوا أنه منزل من الله، لكنهم تركوا متابعته عنادا وتمردا إشفاقا على ذهاب رئاستهم، وطمعا في إبقائها ودوام مأكلتهم. فأي الوجهين كان ففيه لزوم حجج الله وبراهينه على من جهلها، ولم يعرفها، بالإعراض عنها وترك التدبر فيها حين استوجبوا عذاب الله ومقته لجهلهم بها بترك التدبر فيها بعد أن كان لهم سبيل الوصول إلى معرفتها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين "توبيخ لهم على إنكار الدعوة من هذه الجهة، ومع ذلك، فقد جاءت الرسل الأمم قبله، متواترة، فهو عيب وخطأ من كل جهة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{القول}: القرآن، يقول: أفلم يتدبروه ليعلموا أنه الحق المبين فيصدّقوا به وبمن جاء به، بل {جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ} فلذلك أنكروه واستبدعوه، كقوله: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ فَهُمْ غافلون} [يس: 6] أو ليخافوا عنه تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت أباءهم حين خافوا الله فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه؟ وآباؤهم: إسماعيل وأعقابه...
ثم إنه سبحانه لما وصف حالهم، رد عليهم بأن بيّن أن إقدامهم على هذه الأمور لابد وأن يكون لأحد أمور أربعة: أحدها: أن لا يتأملوا في دليل ثبوته وهو المراد من قوله: {أفلا يتدبرون القرآن} فبين أن القول الذي هو القرآن كان معروفا لهم وقد مكنوا من التأمل فيه من حيث كان مباينا لكلام العرب في الفصاحة، ومبرأ عن التناقض في طول عمره، ومن حيث ينبه على ما يلزمهم من معرفة الصانع ومعرفة الوحدانية فلم لا يتدبرون فيه ليتركوا الباطل ويرجعوا إلى الحق. وثانيها: أن يعتقدوا أن مجيء الرسل أمر على خلاف العادة وهو المراد من قوله: {أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين} وذلك لأنهم عرفوا بالتواتر أن الرسل كانت تتواتر على الأمم وتظهر المعجزات عليها وكانت الأمم بين مصدق ناج، وبين مكذب هالك بعذاب الاستئصال أفما دعاهم ذلك إلى تصديق الرسول؟
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت الآيات -لما فيها من البلاغة المعجزة، والحكم المعجبة داعية إلى تقبلها بعد تأملها، وكانوا يعرضون عنها ويفحشون في وصفها تارة بالسحر وأخرى بالشعر، وكرة بالكهانة ومرة بغيرها، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم فقال معرضاً عنهم إيذاناً بالغضب مسنداً إلى الجمع الذي هو أولى بإلقاء السمع: {أفلم يدبروا القول} أي المتلو عليهم بأن ينظروا في أدباره وعواقبه ولو لم يبلغوا في نظرهم الغاية بما أشار إليه الإدغام، ليعلموا أنه موجب للإقبال والوصال، والوصف بأحسن المقال، ولعله عبر بالقول إشارة إلى أن من لم يتقبله ليس بأهل لفهم شيء من القول بل هو في عداد البهائم {أم جاءهم} في هذا القول من الأوامر بالتوحيد الآتي بها الرسول الذي هو من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وما ترتب على ذلك من الأوامر التي لا يجهل حسن فعلها عاقل، والنواهي التي- كما يشهد بقبح إتيانها العالم -يقطع بها الجاهل، وبالرسالة برسول من البشر {ما لم يأت آباءهم الأولين} الذين بعد إسماعيل وقبله.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: أفلا يتفكرون في القرآن ويتأملونه ويتدبرونه، أي: فإنهم لو تدبروه، لأوجب لهم الإيمان، ولمنعهم من الكفر، ولكن المصيبة التي أصابتهم بسبب إعراضهم عنه، ودل هذا على أن تدبر القرآن، يدعو إلى كل خير، ويعصم من كل شر، والذي منعهم من تدبره أن على قلوبهم أقفالها. {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} أي: أو منعهم من الإيمان، أنه جاءهم رسول وكتاب، ما جاء آبائهم الأولين، فرضوا بسلوك طريق آبائهم الضالين، وعارضوا كل ما خالف ذلك، ولهذا قالوا، هم ومن أشبههم من الكفار، ما أخبر الله عنهم: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} فأجابهم بقوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} فهل تتبعون إن كان قصدكم الحق، فأجابوا بحقيقة أمرهم {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وينتقل بهم من مشهد التأنيب في الآخرة، فيعود بهم إلى الدنيا من جديد! يعود بهم ليسأل ويعجب من موقفهم ذاك الغريب.. ما الذي يصدهم عن الإيمان بما جاءهم به رسولهم الأمين؟ ما الشبهات التي تحيك في صدورهم فتصدهم عن الهدى؟ ما حجتهم في الإعراض عنه، والسمر في مجالسهم بقالة السوء فيه؟ وهو الحق الخالص والطريق المستقيم:
(أفلم يدبروا القول؟ أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين؟ أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون؟ أم يقولون به جنة؟ بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون! ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن. بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون. أم تسألهم خرجا؟ فخراج ربك خير وهو خير الرازقين. وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم. وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون)..
إن مثل ما جاء به محمد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لا يملك من يتدبره أن يظل معرضا عنه، ففيه من الجمال، وفيه من الكمال، وفيه من التناسق، وفيه من الجاذبية، وفيه من موافقة الفطرة، وفيه من الإيحاءات الوجدانية، وفيه من غذاء القلب، وفيه من زاد الفكر، وفيه من عظمة الاتجاهات، وفيه من قويم المناهج، وفيه من محكم التشريع.. وفيه من كل شيء ما يستجيش كل عناصر الفطرة ويغذيها ويلبيها (أفلم يدبروا القول) إذن؟ فهذا سر إعراضهم عنه لأنهم لم يتدبروه..
(أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين؟).. فكان بدعا في مألوفهم ومألوف آبائهم أن يجيئهم رسول! أو أن يجيئهم بكلمة التوحيد! وذلك تاريخ الرسالات كلها يثبت أن الرسل جاءوا قومهم تترا، وكلهم جاء بالكلمة الواحدة التي يدعوهم إليها هذا الرسول!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... استفهامات عن سبب إعراضهم واستمرار قلوبهم في غمرة إلى أن يحل بهم العذاب الموعودونه.
وهذه الاستفهامات مستعملة في التخطئة... لأن اتضاح الخطأ يستلزم الشك في صدوره عن العقلاء فيقتضي ذلك الشك السؤال عن وقوعه من العقلاء.
ومآل معاني هذه الاستفهامات أنها إحصاء لمثار ضلالهم وخطئهم ولذلك خصت بذكر أمور من هذا القبيل. وكذلك احتجاج عليهم وقطع لمعذرتهم وإيقاظ لهم بأن صفات الرسول كلها دالة على صدقه.
فالاستفهام الأول: عن عدم تدبرهم فيما يتلى عليهم من القرآن وهو المقصود بالقول أي الكلام، قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن} [النساء: 82]. والتدبر: إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نصبت له. وأصله أنه من النظر في دُبُر الأمر، أي فيما لا يظهر منه للمتأمل بادئ ذي بدء. وقد تقدم عند قوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً} في سورة النساء (82).
والمعنى: أنهم لو تدبروا قول القرآن لعلموا أنه الحق بدلالة إعجازه وبصحة أغراضه، فما كان استمرار عنادهم إلا لأنهم لم يدبروا القول. وهذا أحد العلل التي غمرت بهم في الكفر.
والاستفهام الثاني: هو المقدر بعد (أم) وقوله: {أم لم يعرفوا رسولهم}. ف (أم) حرف إضراب انتقالي من استفهام إلى غيره وهي (أم) المنقطعة بمعنى (بل) ويلزمها تقدير استفهام بعدها لا محالة. فقوله {جاءهم ما لم يأت آباءهم} تقديره: بل أجاءهم. والمجيء مجاز في الإخبار والتبليغ، وكذلك الإتيان.
و (ما) الموصولة صادقة على دين. والمعنى: أجاءهم دين لم يأت آباءهم الأولين وهو الدين الداعي إلى توحيد الإله وإثبات البعث، ولذلك كانوا يقولون: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} [الزخرف: 22]. ولهذا قال الله تعالى {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} [الزخرف: 23، 24].
ثم إنه إن كان المراد ظاهر معنى الصلة وهي {ما لم يأت آباءهم الأولين} من أن الدين الذي جاءهم لا عهد لهم به، تعين أن يكون في الكلام تهكم بهم إذ قد أنكروا ديناً جاءهم ولم يسبق مجيئه لآبائهم. ووجه التهكُّم أن شأن كل رسول جاء بدين أن يكون دينه أُنُفا ولو كان للقوم مثله لكان مجيئه تحصيل حاصل.
وإن كان المراد من الصلة أنه مخالف لما كان عليه آباؤهم لأن ذلك من معنى: لم يأت آباءهم، كان الكلام مجرد تغليط، أي لا اتجاه لكفرهم به لأنه مخالف لما كان عليه آباؤهم إذ لا يكون الدين إلا مخالفاً للضلالة ويكون في معنى قوله تعالى: {أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} [الزخرف: 21، 22].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وفي هذا توبيخ لهم من ناحيتين: أولاهما أنهم مقلدون لا يفكرون بعقولهم تفكير موازنة بين حق وباطل. وثانيهما أنهم مقلدون آباءهم، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون...
في هذه الآية والآيات بعدها يريد- سبحانه وتعالى- أن يوبخهم بعدة أمور واحد بعد الآخر. أولها: {أفلم يدبروا القول} فالاستفهام هنا للتوبيخ وللتقريع: ماذا جرى لهؤلاء؟ أفلم يعقلوا القول الذي جاءهم في القرآن، وهم أمة الفصاحة والبلاغة والبيان، وأمة القول بكل فنونه حتى أقاموا له المواسم والمعارض وعلقوه على الجدار؟ لذلك لا يعقل ألا تفهموا القرآن، وقد جاءكم بأسلوب على مستوى أعلى من البلاغة والفصاحة، لا بد أنكم فهمتموه ووعيتم ما فيه، بدليل قولكم: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31)} [الزخرف]. وهكذا الكذاب يسرقه طبعه، وينمّ منطقه عما في ضميره، فاعتراضكم ليس على القرآن إنما على محمد، لأنه فقير من أوسط القوم، فالمسألة- إذن- منازعة سيادة وسلطة زمنية، لكن ألم يدر هؤلاء أن محمدا (ص) ما جاء ليسلبهم سلطتهم، أو يعلو هو عليهم، إنما جاء ليحكمهم بمنهج الله، ويتحمل هو الأذى والتعب والمشقة في سبيل راحتهم وسعادتهم؟ لقد جاء النبي (ص) ليأخذ الحكم ويحمل منهج الله تكليفا لا تشريفا، بدليل أنه عاش في مستوى أقل منكم، فلا ترى رسول الله إلا أقلهم طعاما وأقلهم شرابا، أقلهم لباسا وأثاثا، حتى أقاربه كانوا فقراء، ومع ذلك حرم عليهم الزكاة التي أباحها لعامة المسلمين الفقراء، كذلك يرث الناس وهم لا يرثون. وبعد ذلك كله تقولون: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31)} [الزخرف]: يبدو أنكم ألفتم العبودية للعظماء وللجبابرة، ألفتم العبودية لغير الله، وعز عليكم أن يحرركم الله من هذه العبودية على يد رجل منكسر فقير منكم، جاء ليصلحكم، ويخرجكم من العبودية للمخلوق إلى العبودية للخالق عز وجل. ألم يقل أحد رؤوس الكفر عن القرآن:"والله إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه". إذن: {أفلم يدبروا القول} توبيخ، لأنهم فهموا القرآن، لكن حسدوا محمدا (ص) أن ينزل عليه، وأن ينال دونهم هذه المكانة، كما قال سبحانه: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.. (54)} [النساء]. الأمر الثاني: {أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين} يعني: جاءهم أمر غريب لا عهد لهم به، وهو أن يأتي رسول من عند الله، وهذه المسألة معروفة لهم، فمنهم إبراهيم عليه السلام، ومنهم إسماعيل وهم مؤمنون بهما، إذن: ليست مسألة عجيبة، بل يعرفونها جيدا، لكن ما منعهم في الأولى منعهم في هذه، إنه الحسد لرسول الله (ص)، لذلك يقول تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله.. (87)} [الزخرف].
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ} الذي جاءهم به النبي محمد (صلى اله عليه وسلم)، ليعرفوا كيف ينطلق من مواقع الصدق الذي لا مجال فيه للكذب، وكيف يدلّ على نفسه، أسلوباً ومضموناً، أنه كلام الله وليس من كلام البشر، وكيف يحكمون على ما لم يتدبّروا فيه، وكيف يشكّون في ما لم يتأملوا فيه؟